من أعلام الأدب الصوفي بالمغرب: عبد الرحمن بن محمد بن عبد الهادي السجلماسي شاعر المحبة المحمدية



من أعلام الأدب الصوفي بالمغرب: عبد الرحمن بن محمد بن عبد الهادي السجلماسي شاعر المحبة المحمدية

ذ. عبد الوهاب الفيلالي

أستاذ التعليم العالي بجامعة سيدي محمد بن عبد الله- فاس

 

يعتبر الفقه والتصوف والأدب أهم عناصر الثقافة المغربية التقليدية التي حاول المغاربة– قبيل وإبان الاستعمار– أن يحافظوا على نقائها بعيدا عن شوائب المؤثرات الخارجية، حيث تعاملوا معها كرمز للهوية المغربية الإسلامية، وكسلاح لمحاربة الضغوط الأجنبية. (1)

وإذا كان موقفهم ذاك قد أسال مداد عدد من الأقلام المهتمة بتاريخ المغرب عموما، وبتاريخ المغرب الحديث والمعاصر على وجه الخصوص، فإن الاقتراب من تلك العناصر الثقافية بالتعرف على ما أفرزه أعلامها من إنتاج فكري وأدبي– وهو ما لم نخط فيه بعد ما يكفي من الخطوات الثابتة والواضحة– من شأنه أن يسهم أولا في تعرفنا على تراثنا في فترة ما قبل الحماية، وثانيا: في استخلاص دقيق لقيمة هذا التراث الفكرية والأدبية، وأهميته في سياق واقع الثقافة المغربية.

ولعلني من هذا المنطلق وفي هذا السياق أجدني مدعوا لطرق باب هذا التراث، والحفر في ذاكرته، والإسهام في الإفصاح عنه من خلال التعريف بأعلامه الصوفيين الأدباء وبإنتاجاتهم، خاصة في فترة القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، التي تجمعها أوثق الصلات لما لحقها من الزمن المغربي.

إن عملا من هذا النوع يتطلب– حتما– وقتا طويلا، ولا يمكن أن يتم دفعة واحدة، كما سيعترضنا خلاله من صعوبات منهجية، وأخرى كمية تتعلق بكثرة أدبائنا الصوفيين إبان تلك الفترة، وثالثة ترتبط بطبيعة هؤلاء الأعلام الذين لا يعرفهم وإنتاجاتهم إلا القليل من الدارسين– وهو واقع قائم لا بد له من بديل– ولا يمكن معرفة أغلبهم إلا بالبحث في المصادر والمظان المخطوطة والمطبوعة على الحجر.

وليكن عبد الرحمان بن عبد الهادي السجلماسي أول هؤلاء الأعلام الذين نرغب في التعريف بهم، ولتكن إنتاجاته دليلا على ما قلناه بخصوص ضعف إلمامنا بتراثنا الفكري والأدبي في القرن التاسع عشر، وما سبق عهد الحماية من القرن العشرين.

فمن هي هذه الشخصية؟

وما سر اهتمامنا بها قبل غيرها من أعلام التصوف الأدباء في تلك الفترة؟

وما هي إنتاجاتها؟

وما طبيعة ومجال هذه الإنتاجات؟

لا بد أن يعرف القارئ منذ البداية أن عبد الرحمان بن عبد الهادي السجلماسي واحد من أعلام التصوف الأدباء والشعراء المغاربة المغمورين، وإنا لم نعثر على ترجمة له أو إشارة إليه في ما وقفنا عليه من كتب التراجم والمناقب والطبقات المخطوطة والمطبوعة التي تنتمي للقرن التاسع عشر أو العشرين – وفي ذلك سر من أهم أسرار اهتمامنا به في صدارة من سنعمل على الترجمة لهم من الأعلام– وأن ما سنسوقه من معلومات عن حياته مستخلص– أساسا– من مؤلفاته، ومما كتبه عنه “محمد عبد الحي الكتاني” (2) في صدر ملف المترجم “تحفة العبد المريب في مدح الحبيب” (3)، وهذا نصه: “مؤلف هذا الكتاب أو جامعه وناسخه هو الشريف البركة المعمر الواعظ الفقيه (..) عبد الرحمان بن محمد بن عبد الهادي العلوي (…) المتوفى بفاس في حجة 1333ه، كان يتردد إلينا كثيرا في حياة الوالد (4)، وجالسته كثيرا، كان له صوت شجي في الإنشاد، درقاوي الطريقة، أعرفه يمشي بفاس غالبا بلا جلابة، ويستقر في جامع الحجاج (5) “بزقاق الحجر”، ولعله كان يؤم بها نيابة، كان صارما، صاحب جد وصراحة، ذاكرا مذكرا، وقيدت عنه بعض مرائيه في “الكناش الأخضر” (6)، وذكرت بعض الأمور عنه في جزء المبشرات، وهذا الكتاب في ثلاثة مجلدات”.

فالمترجم إذن، هو الشريف القاسمي الحسني العلوي، الفقيه الواعظ المتصوف عبد الرحمان بن محمد بن عبد الهادي بن محمد بن عبد الهادي ابن أحمد بن محمد (بفتح الميم) ابن قاسم بن محمد (بفتح الميم) بن علي الشريف بن الحسن ابن محمد بن الحسن..، (7) أحد أبناء سجلماسة الذين نزحوا إلى فاس واستقروا بها، عاش في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ووافته المنية سنة 1333ه/1914م. وقد كان – وهو واحد من أعلام التصوف المغمورين بمغرب القرنين التاسع عشر والعشرين – درقاوي الطريقة، مكبا على العبادة والصلاة، ومولعا بمحبة الرسول صلى الله عليه وسلم، ودائم الصلاة عليه والتشوف إلى مقامه الجليل، جمع في ذلك بين التأليف، والنظم، وبراعة الإنشاد، والقدم المعلى في فن السماع، فكان من أفضل الجامعين.

شيوخه :

لا نعرف من شيوخه في العلم إلا الشيخ أبا العلا إدريس بن عبد الهادي بن عبد الله الحسني الشاكري السجلماسي الفاسي (8) الذي ذكره في مستهل كتابه “نفحة الغيوب في ذكر الصلاة على النبي المحبوب”، وهو يسرد دوافع تأليفه، حيث قال: “حملني على جمعه صدق النية، وريح العناية، وتوثيق الهداية، وإرشاد سيدنا وقدوتنا الشريف العلامة الأجل (…) المدرس الأستاذ الأحفل أبي العلا مولانا إدريس بن (…) مولانا عبد الهادي الحسني السجلماسي” (9)، كما نعرف أنه أخذ الطريقة الدرقاوية على أحد المريدين المباشرين لشيخ الطريقة الأكبر مولاي العربي محمد بن أحمد الدرقاوي (ت. 1239ه/1823م) من خلال قوله: ” وقال شيخنا مولاي العربي بن أحمد الدرقاوي نفعنا الله ببركته…” (10) دون أن نتوصل إلى اسمه. (11)

وعموما– وكما يتبين من الترجمة التي كتبها محمد عبد الحي الكتاني، وبعض كتب عبد الرحمان السجلماسي– كان هذا الأخير على اتصال بشيوخ التصوف بفاس من الدرقاويين والكتانيين، وبعدد من أعلام الفكر والفقه والتصوف…

مؤلفاته :

خلف عبد الرحمان بن محمد بن عبد الهادي السجلماسي– حسب ما وقفنا عليه– سبعة مؤلفات في الصلاة والسلام على خير البرية (12)، جمع فيها المنثور والمنظوم، وكلها مخطوطة بقسم الوثائق بالخزانة الوطنية بالرباط تحت الأرقام التالية: ك 1573 وك 1610 وك 1841، وهي كالآتي:

1- المجموع ك 1573: يضم كتابين للمترجم هما:

أ-“تحفة العبد المريب في مدح الحبيب”:

– أوله: “بسم الله الرحمان الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله. يقول العبد الفقير إلى مولاه الفاني به عما سواه (…) الحمد لله الذي فجر ينابيع القلوب المتوجهة لمشاهدة حضرة المحبوب…”.

– آخره: “وله أيضا كان الله له: انتهى الجزء الأول بحمد الله تعالى يتلوه الثاني (13)، أوله: يا عاشقي الهاشمي محمد من قد حباه إلهنا تشريفـا.

– صفحاته: 365.

–  مسطرته: 18.

–  مقياسه: 22 ونصف/17. وهو – دون مقدمة نثرية – ديوان شعري في محبة الرسول صلى الله عليه وسلم ومدحه والتعلق به والصلاة عليه، ويضم عددا كبيرا من المنظومات والقصائد الشعرية المعربة وبعض النصوص الزجلية.

ب- “لآلئ اليواقيت الحسان في الصلاة على طلعة صدور الأعيان”:

– أوله: “بسم الله الرحمان الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله. الحمد لله المرشد المعين، الميسر طريق السعادة لمن اعتمد على حوله وقوته وكان له مستعينا…”

-آخره: “وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما، والحمد لله رب العالمين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم…

– تاريخ الفراغ منه: الثلاثاء 23 ربيع الثاني 1299 هـ، بخط المؤلف.

– صفحاته: 233 (من 368 إلى 601 من المجموع).

– مسطرته: 18.

– مقياسه: 22 ونصف /17.

2- المجموع ك 1610: يضم المؤلفات التالية

أ – “نور الإتميد في ذكر الصلاة على النبي المجيد”:

– أوله: “بسم الله الرحمان الرحيم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله. الحمد لله فاتح أقفال السعادة، الذي وفق من شاء لطريق الرشد والهداية.

– آخره:

فسلام عليك ما طلع البدر *** ولاح بنور حسن رباك

وسلام كالمسك يغشاك ما *** ناح بريق من حيك وعلاك

– تاريخ الفراغ منه: السبت 20 جمادى الأولى 1313هـ.

– صفحاته: 139 (من ورقة 3 ب إلى 73 ب).

– مسطرته: بين 17 و27.

– مقياسه: 22 ونصف /17.

ب – “قرة الأبصار في ذكر الصلاة على النبي المختار”  

– أوله: “بسم الله الرحمان الرحيم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله. نحمد الله الكريم الوهاب، الجليل المتفضل الحليم التواب…”

-آخره:

وهمومي قد تحال جملـة *** ويغيب وهمي في غيث السماح

– تاريخ الفراغ منه: السبت 20 جمادى الأولى 1313 هـ.

– صفحاته: 136 (من ورقة 74أ إلى 141 ب).

– مسطرته: 25.

– مقياسه: 22 ونصف /17.

ج – “كشف الكروب، وغزالة الخطوب بذكر الصلاة على النبي المحبوب”:

-أوله: “بسم الله الرحمان الرحيم، وصلى وسلم على سيدنا محمد وآله. الحمد لله الذي جعل الصلاة على نبيه تطهر القلوب، وتهذب الأخلاق وتستر العيوب…”

-آخره:

يا حبيبا ولا سواك مرادا *** أنت قصدي حقيقة لا سواك

– تاريخ الفراغ منه: السبت 20 جمادى الأولى 1313هـ.

– صفحاته: 142 (من ورقة 142أ إلى 212ب).

– مسطرته: 25.

– مقياسه: 22 ونصف /17.

د- “نفحة الغيوب في ذكر الصلاة على النبي المحبوب”:

– أوله: “بسم الله الرحمان الرحيم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله. الحمد لله الذي فتح بصائر من اختار لحمل الأسرار، ونور الأفكار بمحبة سيدنا محمد شارق الأنوار”.

– آخره: لكن ظني جميل بأن ربي رحيم، ذاك ظني وما أراجي، فبالنبي خير الخلق طـه شفيع العالمين به أناجــي.

– صفحاته: 62 (من ورقة 213أ إلى 243ب) مع وجود خمس صفحات فارغة في الوسط.

– مسطرته: بين 9 و28.

-مقياسه: 22 ونصف /17.

يضم هذا المؤلف مجموعة من الصلوات النثرية في بدايته، والباقي كله منظومات وقصائد من المعرب والزجل في محبة الرسول ومدحه والتوسل إليه وبه إلى الله.

3- المؤلف المخطوط رقم: ك 1841

– “غنيمة العبد الضعيف المحتاج في ذكر الصلاة على صاحب المغفر والتاج”:

– أوله: “بسم الله الرحمان الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله. الحمد لله الذي مجد أسرار العلوم الغيبية”…

– آخره: قصيدة زجلية في مدح المولى إدريس، والتوسل إليه وبه إلى الله، تنتهي بقوله: ورحمـــة الوحدانـــي…

– صفحاته: 270.

– مسطرته: 21.

– مقياسه: 22/17 ونصف.

يجمع هذا المؤلف بين المنظوم والمنثور، وأغلبه منظومات وقصائد معربة وزجلية في المحبة المحمدية، والصلاة والسلام على الرسول صلى الله عليه وسلم مع التوسل والاستغاثة به إلى الله…

يمكن– بعد هذا الجرد التوثيقي– أن نصنف هذه المؤلفات من جهة أسلوب ترتيبها إلى مجموعتين، تتميز أولاهما بعدم احترام منهاج ترتيب معين، كما هو الحال في “تحفة العبد المريب في مدح الحبيب” و”نفحة الغيوب في ذكر الصلاة على النبي المحبوب” و”غنيمة العبد الضعيف المحتاج في ذكر الصلاة على صاحب الغفر والتاج”، في حين تتميز باقي المؤلفات التي تكون المجموعة الثانية بالتزام عبد الرحمان السجلماسي بمنهاج ترتيب الصلوات على حروف المعجم وفق التهجية المغربية، بحيث يضم كل حرف عدداً من الحروف من الصلوات على الرسول صلى الله عليه وسلم، إضافة إلى قصيدة في المحبة المحمدية ينتقل بعدها إلى حرف آخر، وهكذا دواليك…، وفي ذلك يقول في مقدمة “كشف الكروب”: “وجعلت تصلياته على عدد الحروف المذكورة، وأنشد عند تمام كل حرف قصيدة” (14)

وإذا كان الخط الذي كتبت به هذه المؤلفات واحدا، وأن محمد عبد الحي الكتاني سبق أن أشار إلى أن ناسخ “تحفة العبد المريب في مدح الحبيب” هو مؤلفها، ففي ذلك دليل كاف على أن ناسخ هذه الكتب هو صاحبها عبد الرحمان ابن محمد بن عبد الهادي السجلماسي، وأن تأليفها حسب ما استخلصنا من خواتم بعضها تم بين أواخر العقد الأخير من القرن الثالث عشر الهجري والسنوات الأولى من العقد الثاني من القرن الرابع عشر الهجري. (15)

هكذا، ومن خلال عناوين تلك المؤلفات وما سقناه من معلومات عنها، يتضح أن موضوعها هو الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم، ومحبته والشوق إليه، والتوسل به إلى الله، ونصح الغير بالسير في هذا الاتجاه، (16) وأن صاحبها شديد التعلق بالله، ودائم الاستغاثة به وبرسوله، بوازع نزوعه الديني والروحي، وتجربته الصوفية الذاتية، كما هو ثابت في مستهل كتابه: “قرة الأبصار في ذكر الصلاة على النبي المختار”، يقول: “إني أردت بتوفيق الله وهدايته أن أصنف مجلدا اخترعته بعناية الله من زاوية قلبي، ولفقته من داخل لبي، وعلى الله الاتكال، وهو حسبي في ذكر الرسول ومدحه (…)، حملني عليه كثرة الشوق والمحبة، ولأن من لاذ بجاه الرسول يقبل، وإن مات غلفا مجهلا”.

ولا بأس أن نقترب أكثر مما أنتجه وأبدعه عبد الرحمان السجلماسي، وذلك بالوقوف على نماذج من منثور كلامه ومنظومه.

أولا- نثره:

تحفل مؤلفات عبد الرحمان السجلماسي– خاصة تلك التي رتبها على حروف المعجم– بمئات الصلوات النثرية على الرسول صلى الله عليه وسلم، اخترعها– كما يقال– من زاوية قلبه ولفقها من داخل لبه، وقد يكون بينها ما حفظه عن غيره، وترسخ في قلبه وذاكرته، وغذا جزءا من محبته المحمدية فأسكنه بعض صفحات مؤلفاته.

وفيما يلي نورد أمثلة من صلواته:

– يقول: “اللهم صل وسلم على سيدنا ومولانا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاة عبد غرته أمانيه (…)، وأصبح لاصقا بحصن الصلاة على زين المحاسن الذاتية، ونور الصفات الأمدية أن يكون تحصنه بها له انتفاعا”. (18)

– ويقول في “لآلئ اليواقيت الحسان”: “اللهم صل وسلم على سيدنا ومولانا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاة تغني قائلها عن جميع الحرف، حتى يعرف بالغنى من بعد ما كان باسم الفاقة يعرف، ويزيد بها في محبة الرسول ومحبة آله بعد شوقه اغتباطا…” (19).

– ويقول في “نور الإتميد” مشيرا إلى محبته للرسول صلى الله عليه وسلم، ورغبته في وصاله، والفناء في ذاته: “اللهم صل وسلم على سيدنا ومولانا محمد وعلى آل سيدنا محمد، صلاة تغيب قائلها عن كل مشروب وملذوذ، ويفنى بها في ذات النبي الودود، حتى لا يكون لها سواها ذكرا، ولا غير مداولتها وردا، ولا غير رياض أنسها قرار” (20).

– ويقول كاشفا نزوعه الصوفي: “اللهم صل وسلم على سيدنا ومولانا محمد وعلى آل سيدنا محمد، صلاة يتطهر بها قائلها من لوث الأغيار، ويبرأ بها قلبه من سقم الأكدار، حتى ترد عليه مواهب الأسرار اللدنية أنباء أنباء” (21).

– ويقول في الاتجاه نفسه، مبرزا رغبته في تجاوز مقام التلوين إلى مقام التمكين حيث يوجد الصفاء والكمال، وتنعم الروح بسعادة الوصال: “اللهم صل وسلم على سيدنا ومولانا محمد وعلى آل سيدنا محمد، صلاة يزيد بها قائلها في سماء المعاني فتقا وارتقاء، ويعود بدره بعد كسوفه في معارج السعادة نيرا مشرقا، ويقتبس بها من كشف المعاني ما لا تقوى لسبك إبريزه نضارا” (22).

ذلكم هو مسار بناء الصلوات النثرية في مؤلفات عبد الرحمان السجلماسي، وتلكم هي طبيعتها، يفتتحها دائما بعبارة: “اللهم صل وسلم على سيدنا مولانا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاة…”، ثم يورد غرضه من الصلاة وما يرجوه من ورائها، وهو غالبا إما طلب الفرج والتخلص من الذنوب ورعونات الدنيا، أو الغرق في محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، وطلب وصاله، أو التقرب إلى الله بكل ذلك رغبة في وصال نوره الحق…

ثانيا- نظمه:

(23)

تضم مؤلفات عبد الرحمان بن عبد الهادي السجلماسي– إضافة إلى الصلوات النثرية– عشرات القصائد والمنظومات المعربة والزجلية في محبة الرسول صلى الله عليم وسلم ومدحه والتعلق به، وشكوى فراقه والشوق إليه والتشوق إلى وصله، فضلا عن الصلاة عليه التي تحضر في بعض الأبيات من القصيدة، أو تشكل الموضوع الأساس في العديد من القصائد والمنظومات، كما هو الشأن في قوله:

صلوات عليك ألفا وألفا *** يا سماء الجمال يا خير هادي

صلوات عليك ألفا وألفا *** يا غايتي في شدتي ورشادي

صلوات عليك ألفا وألفا *** ما عدد الحمام في كل وادي

ومن قوله في محبة الرسول والشوق إليه وشكوى فراقه (الخفيف) (24):

أحمد المصطفى إمامي وغوثي *** وملاذي وبالغريب كفيلا
طال شوقي وطال صبري وهجري *** وهواه بحشو صدري نزيلا
هو صحبي، وعمدتي، واعتكافي *** هو قصدي في كل خوف مهولا(25)
ويقول في المعنى ذاته مع التوسل والتوجه بالنصح لنفسه ولغيره بالحفاظ على محبة الرسول وصيانتها (الكامل) :

وبشوق حبه قلبي قد كلف الهوى *** قدما وباح بعشقه وتباهي
وألاح سهما من هواه إلى الحشا *** وزفير شوقه مهجتي حلاها
وأناخ حادي العشق جند غرامه *** وهيام حبه منيتي غطاها(26)

ومن شعره ملحا في طلب الوصل، ومصرا على التوسل والاستغاثة طمعا في الفوز به قوله مع ذكر اسمه (الرمل):

لا بوصلي فزت يا صاحي، ولا *** عن تجني عجت، إني مغرما

والغرام هد رسمي وغدا *** جسمي من كثر الظنون آثما

خبر الصب بصدق ما بدا *** التمني حبل وصلي أضرما (27)

ومن شعره الزجلي في هذا الاتجاه قوله:

كوثر حوضك أرشفة يا محلاها *** اسعد الذي ذاتو اروى بطيب اشذاه (28)

ولا يسع الشاعر بعد هذا الفوز إلا أن يعبر عن افتخاره بذلك، ويتوجه إلى الله بالحمد والشكر (الكامل):

يا سعد حزت مديح أحمد منة *** وسقاني من شرب الصفا فنجال (30)

هكذا تكون هذه النماذج الشعرية صورة مصغرة لرحلة عبد الرحمان السجلماسي في آفاق المحبة المحمدية، وقد ركزنا في انتقائها على رغبتنا في تقريب القارئ من تلك الرحلة، ومن كل مراحلها، كما تضمنتها الكثير من أشعار هذا الشعر وهي – فضل عن الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم-:

1- شدة التعلق بالرسول والشوق إليه، وشكوى فراقه، وما يترتب عن ذلك من معاناة.

2-  التشوق إلى وصال الرسول والتوسل إليه، والإلحاح في طلب هذا الوصال، وتأكيد ذلك الشوق والغرام.

3- تحقق الوصال، ونشوة اللقاء.

4- شكر الشاعر لله ما أنعم عليه به من محبة محمدية خالصة.

وما نريد قوله هنا – ونحن بصدد الحديث عن شعر عبد الرحمان السجلماسي– أن النفس الشعري عند هذا الشاعر يتراوح بين القوة والضعف الفنيين، سواء من نص إلى آخر، أو داخل النص الواحد، حتى إننا نجد من نظمه ما لا يرقى إلى مقام الشعر، ويكفي أن نسميه نظما، خاصة حين يغرق في سرد الصلوات على الرسول صلى الله عليه وسلم، كما أننا نصادف مرات متعددة أشعارا ترقى إلى مقام الإبداع الفني الجيد، خاصة حين يفصح عن تجربته في الحب والشوق والتشوف إلى مقام الرسول صلى الله عليه وسلم، ويعبر عن معاناته في ذلك كله، كما هو الشأن في بعض ما أوردناه أعلاه من نماذج شعرية.

ولا يفوتنا أن نشير إلى أن النزوع الصوفي حاضر بوضوح في الكثير من الأشعار، سواء على المعنى والبعد الدلالي، أو على مستوى المعجم ولغة التعبير، وذلك ما تعكسه المتواليات التالية من النماذج الشعرية أعلاه.

وصفوة القول: إن مؤلفات عبد الرحمان السجلماسي تتضمن الكثير من القصائد الشعرية التي لها حظ وافر من الإبداع الفني الصادق، ومن ثم فهي في حاجة ماسة إلى أن تطولها أيدي الباحثين بالتحقيق والدرس والتحليل.
يتبين من كل ما سبق أن عبد الرحمان السجلماسي واحد من أعلام التصوف المغاربة الذين تعلقوا بالرسول والتصقوا بمحبته صلى الله عليه وسلم، ووهبوا قلوبهم وألسنتهم وأقلامهم لذكره ومدحه والصلاة عليه، وتلك ظاهرة طبعت أدبنا المغربي منذ عهوده الأولى، فكانت سببا في بروز العديد من الأدباء والشعراء، وهذا إن دل على شيء، إنما يدل على إيمان المغاربة وتشبثهم بدينهم وبربهم وبرسوله صلى الله عليه وسلم.

وإذا كان عبد الرحمان السجلماسي قد ظل مجهولا عندنا إلى هذا الحين، وهو من أبناء الأمس القريب، فهناك حتما عدد آخر من الأدباء والشعراء الذين لا نعرف عنهم شيئا، أو نعرف أسماءهم أو بعض المعلومات عن حياتهم دون أن نقف على إنتاجاتهم الأدبية، وقد نقف على بعضها دون البعض الآخر.  (31)

وخلاصة القول، إن ذاكرة تراثنا الفكري والأدبي الفنية تدعونا بإلحاح إلى الحفر فيها، والإحاطة بها واكتشاف مجاهلها، حتى نتبين بدقة حقيقة تراثنا وطبيعة ماضي ثقافتنا…، وحتى تغذو مرآة هذا التراث مصقولة، نرى فيها حقيقة أمسنا، ونستطيع بواسطتها أن نميز فيه بين الغث والسمين، والجيد والرديء، والإبداعي وغير الإبداعي، والأدبي وغير الأدبي من المنظوم والمنثور.

الهوامش

1- A. Laroui : les origines sociales et culturelles du nationalisme marocain (1830-1912). F. Maspero, Paris 1977, pp :228-230.

2 – هو صاحب “فهرس الفهارس” و”المظاهر السامية في النسبة الشريفة الكتانية”. انظر عنه وعن مؤلفاته: “المظاهر السامية”، ص: 285 – 356، مخ. خ. ع بالرباط: ك 3249.

– 3يوجد في أول المجموع المخطوط. خ. ع بالرباط: ك 1573.

4- والد محمد عبد الحي الكتاني هو: الإمام العارف أبو المكارم عبد الكبير بن محمد بن عبد الكبير الحسني الإدريسي الكتاني، توفي رحمه الله سنة 1333ه/1914م، ودفن بزاوية والده بفاس، (انظر عنه: فهرس الفهارس، ج2/139-143، المطبعة الجديدة – فاس:1347ه).

5- سمي بجامع “الحجاج” لأن الحجاج كانوا يصلون فيه طول مدة أقامتهم بداخل مدينة فاس قبل رحيلهم إلى الحج.
(انظر عن ذلك: عبد الكبير بن هاشم الكتاني :”زهر الآس في بيوتات فاس”، ص: 548، مخ. خ. ع بالرباط: ك 1281).

6- هو كتاب مفقود.

7- كذا ورد اسمه في ص:1 من “غنيمة العبد الضعيف المحتاج في ذكر الصلاة على صاحب المغفر والتاج” مخ. خ. ع بالرباط: ك 1841.

– ورقة 211 من “كشف الكرب وغزالة الخطوب بذكر الصلاة على النبي المحبوب” ثالث المجموع – مخ. خ. ع بالرباط: ك 1610.

8- انظر عنه: إدريس بن أحمد العلوي الفضيلي: “الدرر البهية والجواهر النبوية في الفروع الحسنية والحسينية”، ج1/261 -262 ط حجرية 1314هـ.

9- نفحة الغيوب…” ورقة 213أ، رابع المجموع – مخ. م. ع بالرباط: ك 1610.

10- عبد الرحمان السجلماسي: “قرة الأبصار في ذكر الصلاة على النبي المختار”، ورقة 74أ ثاني المجموع – مخ. خ. ع بالرباط: ك 1610.

-11من هؤلاء الشيوخ المقيمين بفاس والمعاصرين لعبد الرحمان السجلماسي الذين يمكن أن يكون قد أخذ الطريقة الدرقاوية عن بعضهم:

– عبد الواحد بن علال الدباغ الحسني الإدريسي (ت1271هـ).

– أحمد البدوي بن أحمد بن أبي حيدة بن عبد الكريم زويتن (ت1275هـ).

– أبو بكر بن محمد بن أحمد بن أبي جيدة بن عبد الكريم زويتن (ت1281هـ).

ولمعرفة شيوخ الطريقة الدرقاوية الذين أخذوا مباشرة عن الشيخ مولاي العربي الدرقاوي يمكن العودة إلى:

– محمد بوزيان بن أحمد المعسكري: “كنز الأسرار في مناقب مولاي العربي الدرقاوي وبعض أصحابه الأخيار” مخ. خ. ع بالرباط: ك 2841.

– محمد المهدي بن القاضي:” النور القوي في ذكر شيخنا مولانا عبد الواحد الدباغ وشيخنا مولاي العربي الدرقاوي” مخ. خ. ع بالرباط: ك 2301.

12- ذكر منها الأستاذ “محمد المنوني” في مقاله: “مؤلفات مغربية في الصلاة والتسليم على خير البرية” الذي نشره في مجلة دعوة الحق عدد 4/1977 (ص: 20/31) “كتاب اللآلئ الحسان في الصلاة على طلعة صدور الأعيان” (ثاني مجموع: ك 1573) دون أن يورد اسم المؤلف، لأنه لم يذكر أصلا في كتاب اللآلئ. وقد توصلنا– بعد مقارنة هذا المؤلف بغيره من مؤلفات المترجم – إلى أنه لعبد الرحمان السجلماسي، استنادا إلى وحدة الخط، وأسلوب التعبير، ومنهاج الترتيب، فصلا عن وحدة الموضوع، وتشابه البدايات (البسملة والحمدلة).

13- لم نعثر عليه.

14- كشف الكروب: ورقة 142أ.

15- من مؤلفات هذه الفترة في الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم:

– “لؤلؤة الأنوار وقلائد الجوهر ورياض الأزهار في الصلاة على النبي المختار”: لمحمد بن المدني البوعناني الحسني المراكشي (توفي في آخر العقد الثاني من القرن 14هـ) ط. حجرية: 1315.

– “أدل الخيرات في الصلاة على سيد الكائنات”: لأبي الفيض محمد بن عبد الكبير الكتاني (ت 1327ه/1909م)، ط. حجرية فاسية.

– “الدلائل النبوية والمكارم المحمدية”: (في مجلدين)، لأحمد بن الحاج العباس الشرايبي الفاسي المراكشي (ت1329/1911) مخ. خ. ع بالرباط: ك 1571.

16- انظر حول: التأليف في الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم وبدايته بالمغرب (أواسط القرن 8 هـ): مقال الأستاذ محمد المنوني: مؤلفات مغربية في الصلاة والتسليم على خير البرية.

17- قرة الأبصار، ورقة 74أ.

18- نفسه، ورقة 118أ.

19- لآلئ اليواقيت الحسان، ص: 438.

20-  نور الإتميد: ورقة 30أ.

21-  نفسه: ورقة 4أ.

22- نفسه، ورقة 30أ.

23- انظر جل هذا النظم في: “تحفة العبد المريب”، و”غنيمة العبد الضعيف”.

24- تحفة العبد المريب، ص: 148. إن هذا النص لا يحترم وزنا معينا بقدر ما يخضع لإيقاع الإنشاد.

25- نفحة الغيوب: ورقة 233ب.

26- تحفة العبد المريب، ص: 103،104 (لا ننطق مد الكلمات المسطر تحتها قصد الحفاظ على سلامة الوزن).

27- نفسه، ص: 231 -233.

28- نفحة الغيوب: ورقة 229أ.

29- نور الإتميد: ورقة 53ب، 54أ.

30- نفسه: ورقة 58أ.

31- لنتبين ذلك يكفي أن نعود إلى كتب التراجم المشهورة، وبخصوص فترة القرن 19 وبداية القرن 20. انظر مثلا:

– الإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام: للعباس بن إبراهيم المراكشي.

– مجالس الانبساط بشرح تراجم علماء وصلحاء الرباط: لمحمد بن علي دنية.

– أعلام الفكر المعاصر بالعدوتين – الرباط وسلا: لعبد الله الجراري.