إمارة المؤمنين: رمزيتها وبُعدها الإفريقي



إمارة المؤمنين: رمزيتها وبُعدها الإفريقي

ذ. إبراهيم أحمد المقري- نيجيريا

 

المطلب الأول: إطلالة على إمارة المؤمنين

إن الإمامة العظمى أو إمارة المؤمنين هي “حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا”[1].

فإمارة المؤمنين كما في التعريف أعلاه ليست سلطة سياسية يخوّل إليها تسييس الشعوب في مصالحهم الدنيوية فحسب، بل يناط بها في المقام الأول حراسة الدين من خلال الحفاظ على ثوابته ورعاية قواعده وتعزيز أواصر الأخوة الإيمانية بين المنتسبين إليه: {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم}. وليس فيما نقوله خرق لإجماع أهل السنة في أن إمارة المؤمنين قضية مصلحية دينية ودنيوية.

وإذا كان مصطلح إمارة المؤمنين قد عرف في زمن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقد استمر عبر الأحقاب والعصور تُفرِض عليه الظروف الزمانية والمكانية طوابع مختلفة على حسب مقتضيات تلك الأعصر والأمكنة لمرونة المصطلح وللتغير المستمر في التاريخ.

وقد ظل الخلفاء بعد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتوارثون هذا اللقب لمن يملك الحجاز والشام والعراق حتى جاء المولى إدريس وتبنى نظام إمارة المؤمنين في المغرب، وإن كانت الوثائق تؤكد بأن أول من حَمِل لقب أمير المسلمين من سلاطين المغرب هو “السلطان المرابطي يوسف بن تاشفين بعد انتصاره في موقعة الزلاقة بالأندلس”. وقامت إمارة المؤمنين في المغرب على أسس شرعية، تولى أمرها أهل العلم والورع والشرف.

ومن الجدير بالذكر أنه ليس على وجه المعمورة اليوم بيعة بإمارة المؤمنين على الوجه الشرعي غير هذه التي منّ الله بها على المغرب، بل على عالم المؤمنين كافة من خلال الأسرة العلوية الشريفة بالمغرب، والمهمة الأولى لإمارة المؤمنين هي الحفاظ على بيضة الدين ورعاية ثوابته، وهي مهمة تسهر عليها وتقوم بها مؤسسة إمارة المؤمنين بالمغرب خير قيام.

وللإمامة العظمى مؤهلات صرح بها الأئمة من العدالة والعقل والحرية وغير ذلك، ولكن أخصها بالتمييز هو النسب القرشي بما أثبتته شواهد السنة الصحيحة، ففي الحديث المتفق عليه: “لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان”[2] وقد اتفق عمل أهل السنة بهذا الحديث، قال الإمام مالك رضي الله عنه: “ولا يكون الإمام إلا قرشيا، وغيره لا حكم له إلا أن يدعو إلى الإمام القرشي”[3].

ولا يضير في أهلية الإمام الأعظم ألا تنخرط جميع الأقاليم المسلمة تحت إمرته، إذ لم يحدث في التاريخ الإسلامي منذ مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه أن اجتمعت جميع الأقطار الإسلامية تحت إمرة واحدة، ولم يؤثر ذلك في مسمى الإمامة العظمى.

هذا، وقد لقيت مؤسسة إمارة المؤمنين قبولا واحتفالا كبيرين في إفريقيا جنوب الصحراء، واستمر نشر التعاليم الإسلامية بالقارة الافريقية انطلاقا من جنوب المغرب عن طريق القوافل التجارية والدعوات الجماعية السلمية والعلمية والروحية التي كان يقودها الدعاة والفقهاء بأمر من أمير المؤمنين لنشر العقيدة الأشعرية والمذهب المالكي السنِّي وقراءة القرآن برواية ورش عن نافع وإن كانت عناية المغرب بإفريقيا تتجذر بعيدًا لتعود إلى ما قبل ظهور الإسلام، ثم جاء الإسلام وأعطى لها البعد الروحي السامي، فلم تعد العلاقة قائمة على أساس التبادل التجاري فحسب، ولكن على ثوابت دينية وثقافية مشتركة تتمثل في التبادل والتفاعل الإيجابي أخذًا وعطاء، وما أن اكتشفت إفريقيا عبقرية المغرب القيادية حتى انقادت له وبايع الكثير من سلاطينها وملوكها لإمارة المؤمنين بالمغرب، وامتزج الشعبان ليتمخض عن ذلك وجود حضارة مغربية زنجية متميزة بالأشعرية عقيدة والمالكية مذهبًا والتصوف سلوكًا.

المطلب الثاني: بيعة السلاطين والأمراء الأفارقة لإمارة المؤمنين بالمغرب

إن ولاء الممالك والدول الإفريقية المسلمة لإمارة المؤمنين بالمغرب تاريخي يمتد قديما إلى عصر المرابطين الذين امتدت حدود دولتهم إلى السنغال والسوادان، كما كانت بعض الدول الإفريقية تدعو للسعديين لزهاء ثمانية عقود، وكانت الخطبة تتم باسم السلطان المغربي في تمبكتو التي بقي أهلها أوفياء لبيعتهم وبقي العهد موصولا إلى عهد المولى عبد الرحمن.

وقد اعتنق بعض أمراء الدولة الغانية الإسلام وانضووا تحت الإمارة المرابطية مع أتباعهم من السراكولي والونغارا والديولا والمادينغا، وأصبحوا يقومون نيابة عن المرابطين بحملات لنشر الدين الإسلامي بين القبائل الوثنية من الهبل والموسي.

والمعلوم أن ميلاد الأسرة الشريفة في المغرب عام 788ه قد تزامن مع بروز تجارة مريحة عبر الصحراء تربط الإمبراطوريات السودانية الوسطى بموانئ البحر الأبيض المتوسط في الشمال.

ومنذ ذلك الزمن أسرعت الممالك والشعوب من العمق الإفريقي إلى مبايعة إمارة المؤمنين والانضواء تحت لوائها: ومن أقدم تلك البيعات بيعة الإمبراطور إدريس الثالث 1582م، التي كتبت بفاس ونقلت إلى مقر الإمبراطور الكانيمي فأشهد على نفسه وعلى أتباعه بمنطوقها وتبعاتها، وجاء في نص البيعة الطويل “تدارك الله سبحانه الوجود وأعز العالم الموجود واستطارت الأنوار المضيئة للأغوار والنجود بطلوع شمس الخلافة النبوية والإمامة الهاشمية العلوية ففاضت على أديم البسيطة أنوارها وارتفع إلى السما والفرفدين منارها وتبلج بالأصباح نهارها ولاح في سماء المجد بدورها…  مولانا أمير المؤمنين وخليفة الله في الأرضين وسليل خاتم النبيين ووارث الأنبياء والمرسلين المفترضة طاعته على جميع العالمين… أمير المؤمنين المنصور بالله أبو العباس… فإنه إمام الجماعة حقا، المستوفي شروطها والوارث للخلافة النبوية والحريص على بيضة الإسلام أن يحوطها”[4].

ومن بلاد شنقيط يحفظ التاريخ كذلك البيعة المشهورة للعلامة أحمد المصطفى الوداني التشيتي المعروف بابن طوير الجنة 1850م للسلطان مولاي عبد الرحمن في القصر السلطاني بمراكش، جاء فيها: “يا سيدي، أخبرني شيخي قدس الله روحه أنه في الحديث: (من مات ولم يدخل تحت بيعة سلطان مات ميتة جاهلية) فالآن امدد يدك أبايعك على سنة الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم”[5]. ثم تتوارد رسائل البيعة من مختلف أنحاء بلاد شنقيط وخارجها.

وفي السياق نفسه يُقدِم إمام تندوف الشيخ محمد المختار بن بلعمش الجكني 1869م ببيعته للسلطان محمد الرابع وقد خاطبه فيها بقوله: “وقد بايعناك على السمع والطاعة ولزوم السنة والجماعة والتمسك بالدعوة ببقائها إلى قيام الساعة في الرضى والسخط والمكره والمنشط والعسر واليسر والقل والكثر والشدة والرخاء، والسراء والضراء، وعلى ما بويع عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخلفاؤه الراشدون… هات يدك يقبلها قرطاسي نائبًا عني وعن ناسي”[6].

المطلب الثالث: الولاء الروحي والتعانق الثقافي

من المعروف أن ماضي المرابطين والموحدين وباقي الأسر التي توالت على حكم المغرب هو الخميرة الطبيعية التي تولدت منها عملية أسلمة إفريقيا جنوب الصحراء.

ويرى بعض المؤرخين بأن: “الأسلمة التي تمت عبر ومن خلال جهاد المرابطين لم تكن في واقع الأمر إلا وسيلة من وسائل منح الشرعية الدينية لعلاقات تجارية كانت أصلا مهيكلة، وعلى الرغم من أن هذا الموقف يضمر في صلبه بُعدًا إيديولوجيا من خاصية ما، فإنه يعترف ضمنيًا بالقيمة الاعتبارية التي مثلها قدم علاقات التبادل وعمقها واستقرارها في الزمن دون انقطاع”[7].

ومنذ استقرار الأسرة العلوية الشريفة على ملك المغرب اشتهرت باهتمامها البالغ بنشر العلم وتكريم العلماء، مما جعلها قبلة المسلمين العلمية طلابا وعلماء، فلجأ إليهم الكثير من العلماء الشوام والمصريين والحجازيين، حيث أثخنت بلادهم الحروب المتتالية من التتار والصليب وغيرهما.

وكان القدر يهيئها للريادة العلمية والثقافية، فقامت السيدة فاطمة أم البنين بنت محمد بن عبد الله الفهري ببناء أقدم جامعة على وجه الأرض، وهي جامعة القرويين عام 245ه، الجامعة التي غدت مدينة فاس باعتبارها مصدر إلهام إفريقيا ومصنع قادتها الكبار، حتى قال عنها باديا لابليش المعروف بعلي باي العباسي: “إن مدينة فاس هي في إفريقيا أشبه بأثينا (عاصمة الفكر في أوربا) وقد رحل إليها المشارقة والمغاربة، فلا تسأل إذن عن قائمة أسماء الأعلام الأفارقة الذين نهلوا من معينها وكرعوا من غدرانها  وسقوا من كاساتها ليعودوا إلى بلادهم شعلة نور تضئ الآفاق، فتلك قائمة مد البصر.

وقد تجاوزت العلاقة المغربية الإفريقية في المجال العلمي والثقافي كل الحدود، ويتجلى تأثير المغرب القوي على إفريقيا في هذا المجال من خلال المذهب المالكي الذي انتشر في غرب إفريقيا، ولا يزال يتمتع بوجوده القوي متحديا جميع الأيدي التي تدس في أطوار ظلام من حقب التاريخ لتحاول زعزعته عن مراسه ولكن هيهات. وقد أورد المرحوم الأستاذ إبراهيم الكتاني في مقدمة تحقيق فتح الشكور للولاتي قائمة طويلة بأسماء الكتب المغربية التي يتخرج عليها طلاب العلم في السودان الغربي جميعه.

أما المنهج المتبع في التعليم فنفس النظام المغربي، ولا تزال المعاهد العلمية العتيقة تسير عليه. “منذ الدخول إلى الكتاب والبدء في حفظ القرآن على رواية ورش إلى تعلُّم الكتابة بالخط المغربي المعروف المتميز بشكله ورسمه ونقطه وترتيب حروفه ثم يستقل الطالب لحفظ المتون العلمية الفقهية واللغوية والأدبية.

وهذا التأثير أحيانًا ما يكون مباشرًا عن طريق الاحتكاك الفعلي بالعلماء المغاربة الذين لم ينقطع ورودهم على الأقطار الإفريقية للإفادة، وأحيانًا يكون مباشرا عن طريق الكتب والمؤلفات المغربية التي انتشرت واشتهرت في إفريقيا وأصبحت المصدر المعوّل عليها”[8].

وإذا كانت تمبكتو عاصمة الثقافة الإسلامية للمدن الإفريقية فإن ذيوع صيتها مرتبط بمركزين لا تقل شهرتهما عن شهرة جامعتي القرويين والزيتونة في فاس وتونس، وهما جامعتا سنكوري وسيدي يحيى، والأولى حصيلة العلماء المغاربة الذين وفدوا إلى الديار الإفريقية لغرض الإفادة ودرّسوا فيها، والأخرى لسيدي يحيى وهو عالم مغربي من سوس، بنى المسجد وأنشأ فيه حلقات علمية يقصدها الطلاب والعلماء، وعندما توفي دفن بجوار المسجد.

ومن جملة الزعماء الأفارقة الذين تلقوا علومهم بالمغرب الشيخ محمد الأمين الكانيمي الذي أقام في فاس سنتين وزار طرابلس والقيروان وتلمسان، وبعد عودته إلى كانم برنو قام بأدوار جليلة في نشر العلم وقلد منصب إمارة مملكة كانم برنو في وقت كانت فيه من أعظم الممالك الإسلامية في العالم وأوسعها رقعة، واشتهر بعلمه وعدله وورعه وسفاراته إلى البلاد العربية ومساجلاته مع زعماء الممالك الإسلامية المتاخمة والبعيدة.

وإذا كان مؤلف واحد يستأثر دون غيره بتوجيه الحركة الفودية الإصلاحية فلا شك أن ذلك الكتاب هو المدخل لابن الحاج العبدري الفاسي، الكتاب الاجتماعي التربوي الذي وصف فيه صاحبه كثيرًا من أوضاع المجتمع الإسلامي وما كان عليه أهل زمانه من البدع والانحرافات، واهتم فيه بمعالجة سلوك المسلم في حياته اليومية، حتى لقد بلغ من اهتمام الشيخ عثمان بن فودي بالكتاب أن اختصره في كتاب سماه “لباب المدخل” ثم حذا على منواله بكتاب آخر من أشهر مؤلفاته الثورية، وهو: “إحياء السنة وإخماد البدعة”.

أما البعد الحقيقي للعلاقة الروحية والثقافية بين المغرب وإفريقيا فقد بدأ مع قيام الزاوية التجانية في فاس على يد مؤسسها مولانا أبي العباس أحمد بن محمد التجاني الذي بذل المولى سليمان كل تالد وطريف في تيسير واجب الدعوة له، فعمت طريقته ربوع القارة، وظل الولاء للدولة العلوية السنية من أكبر سمات أتباع هذه الطريقة أينما وجدوا، وصارت زواياهم امتدادات روحية لهذا التعلق.

وما زال التجانيون متمسكين بهذا الولاء للدولة العلوية الشريفة، وقد أكد هذه البيعة والولاء شيوخ ومقدّمو الطرق في الجمع الأخير للمنتسبين إلى الطريقة التجانية الذي انعقد بفاس عام 2007م لما أشادوا بالدور الرائد لإمارة المؤمنين في تعزيز الروابط الروحية بين المغرب وإفريقيا وجدّدوا بيعتهم لأمير المؤمنين وأقرُّوا باتخاذهم مدينة فاس العاصمة الروحية والثقافية لهم أينما كانوا.

وهكذا وجدت القارة الإفريقية في الثنائية السنية للدولة العلوية والطريقة التجانية خير مزيج لنشر الفكر الإسلامي ومعالم السنة المحمدية، فاكتسب المغرب بذلك عن حق صيتا جعل من الملوك العلويين رواد الوحدة الإسلامية من المتوسط إلى النيجر.

المطلب الرابع: رعاية إمارة المؤمنين للعمق الإفريقي

إن عناية إمارة المؤمنين بالعمق الإفريقي منقطعة النظير، لم يهن حبل هذه العلاقة منذ تأسست إمارة المؤمنين ساعة من ليل أو نهار، فقد ظلت تربي هذه العلاقة الروحية عن طريق توسعة المشاريع الدعوية ونشر التصوف السني في أنحاء القارة، كما تولي العلوم والثقافة أهمية كبرى في تنمية الشعب الإفريقي باستقبال البعثات المتلاحقة للعلماء الأفارقة وابتعاث العلماء المغاربة إلى ربوع القارة.

وبصفتهم أمراء للمسلمين يرى الملوك العلويون الدفاع عن ديار الإسلام وحفظ مقدِّرات المسلمين وأراضيهم واجبًا شرعيًّا، كما يرون ضرورة حمل المسلمين على الوحدة والاجتماع تحت لواءٍ واحدٍ مرة باللين ومرة بالشدة في مراقبة تامة للضوابط الشرعية في كلتا الحالتين، وكانوا كذلك يرون ضرورة النظر في مصالحهم الدينية والدنيوية، ويُعبّر عن ذلك صاحب الجلالة المغفور له الملك الحسن الثاني طيّب الله ثراه: “وهذه البيعة تلزمني وتلزمك، وتضع على كاهلك وعلى كاهلي أعباء وواجباتٍ لم يكتف القدرُ بأن نقول بها، ونصيح بها، بل أرادت ألطاف الله ونعمه التي لا تُعدّ ولا تحصى علينا ولله الحمد على أن يبوح العالم كله، وأن تعترف بها الدوائرُ السياسية العالمية”[9].

إن اهتمام إمارة المؤمنين بمشروع التنمية الإفريقية هو الذي حث العلماء المغاربة ويسّر لهم سبل الرحلة إلى بلدان إفريقيا لنشر العلم وترسيخ المدارس السلوكية، وفي هذا السياق أورد الدكتور محمد المغربي في كتابه قائمة بعشرات الأسماء من العلماء المغاربة الذين دخلوا إفريقيا لغرض نشر العلم، جاء ضمن القائمة العلامة محمد بن عبد الكريم المغيلي صاحب أكبر الأثر في تنظيم الإدارة بسلطنة كنو زمن محمد رمفا، وذكر المؤلف كذلك أبا القاسم التواتي والشيخ محمد القوري أحد تلاميذ الشيخ أحمد زروق، هاجرت عائلته إلى المغرب وذاع صيته بها ومنها تيسر له الانتقال إلى إفريقيا لنشر العلم والتربية الصوفية، ومنهم القاضي عبد الله بن أحمد الزموني المؤرخ الكبير وشارح كتاب الشفا، تتلمذ عليه قاضي تمبكتو وعدد غير قليل من علماء مالي، أما عبد الرحمن القصري فقد أوغل في إفريقيا حتى دخل أرض كنو وكشنه الواقعتين في نيجيريا الحالية، وحدث بمحضر ملوكها وأجلوه على الفرش الرفيعة ووصلوه الصلات الجزيلة من جوار وغيرها، حتى لقد ولد له من أهلها، وبعد جولته في بلاد الهوسا عاد إلى فاس وتقلد منصب الإفتاء إلى أن توفي بها سنة 956ه.

وكما ورد على بلاد السودان الغربي عشرات بل مئات العلماء من المغرب فكذلك استقبلت جامعة القرويين وغيرها من حواضن العلم بالمغرب استقبلت الآلاف ممن لمعت أسماؤهم في تاريخ القطرين، وازدهرت تجارة الكتب وحفلت خزائن مدن السودان الغربي بكل ما كان معروفًا في المغرب من كتب في مختلف الفنون.

وليس يخفاك ما تقوم به إمارة المؤمنين تحت حكم العلويين الأشراف من بناء الجوامع والمساجد في الكثير من العواصم والحواضر الإفريقية وما تبثه هذه الجوامع من النور النبوي علما واستقامة.

وهكذا ظلت إمارة المؤمنين تحوط إفريقيا المسلمة بعنايتها الكاملة من النواحي الدينية والدنيوية عن طريق نشر العلم والثقافة وتعزيز الروابط الروحية، وكان جلالة الملك أمير المؤمنين محمد السادس نصره الله يشير في مناسبات كثيرة إلى متانة العلاقات المغربية الإفريقية، منها قوله: “أما علاقتنا مع عمقنا الإفريقي الذي يشكل مجالا لفرص واعدة فإننا حريصون على نهج مقاربة متجددة قائمة على التضامن ومبنية على تعزيز الأمن والاستقرار، خاصة في منطقة الساحل والصحراء، فضلا عن خلق شروط التنمية البشرية، تسهم بالنهوض بالإنسان الإفريقي طبقا لأهداف الألفية للتنمية”[10].

وفي إطار هذه العلاقات المغربية الإفريقية التاريخية، لم يأل جلالة الملك محمد السادس نصره الله خلال زياراته الافريقية ومقابلاته الرسمية جهدا في إسداء نصائحه الغالية بصفته أميرا للمؤمنين لرؤساء الفرق الدينية المسلمة الإفريقية ولأئمة مساجدها وللمرشدين بها بأن يلقنوا مواطنيهم المسلمين الإسلام الوسطي الداعي إلى الاعتدال وثقافة السلام والتمسك بالصراط المستقيم.

إن عناية إمارة المؤمنين البالغة بتكوين العلماء الأفارقة، ليس مما يخفى على من له أدنى إلمام بواقع الشعوب المسلمة حيث كان المغرب يستقبل منذ عصور آلاف الشبان من البلدان الإفريقية للتكوين في مختلف التخصصات العلمية والتقنية، حتى أسس أخيرا معهد محمد السادس لتكوين الأئمة المرشدين والمرشدات، ذلك الصرح العملاق الذي يعطي عناية خاصة ومنقطعة النظير بتكوين الداعية الإفريقي وتزويده بكل ما يحتاج إليه في العصر الحديث، وإن أثر هذا المشروع الإيجابي يتجاوز كل حدود الوصف.

هذا، وقد قام جلالة الملك نصره الله بتأسيس مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة التي تعتبر بحق أكبر مظلة وأعظم رابطة لعلماء القارة راعت في تكوينها كل ما تحتاج إليه القارة من علمائها وجمعت تحت مظلتها أكبر عدد من العلماء والشيوخ والمثقفين وقادة الرأي العام، ويناط بهذه المؤسسة آمال ضخام في جمع كلمة  الشعوب الإفريقية المسلمة التي طالما عانت من التشرذم والتفرق الشيء الكثير، وفي الحفاظ على الثوابت الدينية المشتركة التي ترعاها إمارة المؤمنين، وليس من المبالغة القول بأن مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة اليوم هي كبرى تجليات مؤسسة إمارة المؤمنين في القارة الافريقية ولله الحمد والمنة.


[1] – مقدمة ابن خلدون، 1/191.

[2] – صحيح البخاري، 7140؛ وصحيح مسلم، 1820.

[3] – انظر: أحكام القرآن لابن العربي، 4/1721.

[4] –  انظر نص البيعة كاملة في مناهل الصفا لأبي فارس عبد العزيز الفشتالي، من مطبوعات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ص: 96.

[5] – البيعة وأثرها في الاستقرار وربط أواصر المحبة وتجديد العهد بين شمال المغرب وجنوبه، للأستاذ محمد كنون الحسني، مقالة منشورة بمجلة دعوة الحق، العدد 397 شعبان 1431ه، يوليو 2010.

[6] – المرجع نفسه.

[7] – في البعد الإفريقي للإسلام المغربي، د. عبد الله بوصوف، مجلة العلماء الأفارقة، العدد الأول، 2019م.

[8] – أبعاد إمارة المؤمنين في السياق الإفريقي، إبراهيم أحمد مقري، مجلة العلماء الأفارقة، العدد الأول، 2019م.

[9] – البيعة وأثرها في الاستقرار وربط أواصر المحبة وتجديد العهد بين شمال المغرب وجنوبه، للأستاذ محمد كنون الحسني، مقالة منشورة بمجلة دعوة الحق، العدد 397 شعبان 1431ه، يوليو 2010.

[10] – مقتطف من خطاب جلالة الدلك بمناسبة الذكرى الثانية عشرة لعيد العرش، طنجة 30/07/2011.