القول المعتمد في مشروعية الذكر بالاسم المفرد ﴿الله﴾



القول المعتمد في مشروعية الذكر بالاسم المفرد ﴿الله﴾

تقريظ العلامة سيدي العباس بن أبي بكر بناني

الحمد لله كما يجب لجلاله، وصلى الله وسلم على النبي وآله.

أما بعد: فإن الأقدار الإلهية سمحت باجتماعنا بالشيخ الأكبر، المربي الأشهر، أبي العباس سيدي أحمد بن مصطفى العلاوي المستغانمي، بحاضرة فاس الغراء، بمناسبة زيارته للمغرب الأقصى، ووصول جنابه إليها أوائل شهر ذي الحجة الحرام متمم سنة ستة وأربعين وثلاثمائة وألف، ولم أكن قد رأيته من قبل، وكانت لي معه صلة ودية مبناها على رابطة علمية، ولأجل هذا تقدمت بيني وبينه مكاتبة حبية، فلما اجتمعت بالشيخ المذكور، رأيته رجلا قد وضع الحق عليه حلية القبول، وهو متصف بأخلاق عالية ومآثر فاضلة، والرجل له شغف زائد بالعلم، ومجالسة أهله، والمذاكرة في مسائله، معمرا أوقاته بالذكر والنصح والدلالة على طريق الحق، سالكا سنن المهتدين، فحل مني محلا رفيعا ومقاما بديعا، وأنشدت قول القائل:

ما زلت أسمع من إحسانكم خبرا * الفضل يسنده عندكم ويرفعه

حتى التقينا فشاهدت الذي سمعت * أدنى وأضعاف ما قد كنت أسمعه

وكان مما قد جرى من المذاكرة معه، مسألة ذلك الاسم المفرد الجامع على سنن ما يفعله الصوفية، وأطلعني على رسالة له تضمنت الانتصار لهم في ذلك، بأدلة ظاهرة، ورد إنكار المنكر عليهم في ذلك، فبمناسبة ذلك ظهر لي كتب هذه العجالة، فأقول وبالله التوفيق والهداية. لا جرم أن الذكر إما لساني، وإما قلبي، فإما أن يكون إطلاقه عليهما بالاشتراك، والأقرب أنه حقيقة في القلب، لأن ضده النسيان، ومحل النسيان القلب، لأن الضدين يجب اتحاد محلهما، كما قاله الشريف التلمساني، رداً على بن عبد السلام التونسي المتوهم أن ضده الصمت، فإن الصمت ضد النطق، والذكر من حيث ذاته دائر بين الوجوب والندب، لثبوت الطلب من الشارع، وأدنى مراتب الطلب الندب، ولذلك كان الذاكر لا يحتاج في ذكره إلى نية، لأنها إنما تكون فيما يقع على وجهين: الطاعة والمعصية، فتطلب النية للتمييز. إلى أن قال: ثم إن الذكر يجب على الذاكر على أي حالة كان، وفي أي زمان ومكان، وهي خصيصة بشاهد أنه عليه السلام «كان يذكر الله على سائر أحيانه» رواه الأئمة منهم مسلم، وقال جل علاه: (الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم)، والمراد الذكر المعلن على أقوال أربعة في تفسير الآية، ومنها قول «ابن فورك» المعنى قياما بحق الذكر، وقعودا عن الدعوى فيه، والصحيح أن الآية عامة في كل ذكر، وأنت خبير بأنه ليس للفذ أن يترك الذكر، لكونه ليس على أكمل الحالات، فإن ترك الذكر من أقبح العيوب، وأعظم المصيبات، فينبغي للعبد أن لا يغفل عن الذكر على أي حال كان وفي أي وقت، قال الشيخ أبو القاسم القشيري: «ومن خصائص الذكر أنه غير موقت، بل فما من وقت من الأوقات إلا والعبد مأمور بذكر الله تعالى، إما فرضا وإما نفلا،  والصلاة وإن كانت أشرف العبادات، فقد لا تجوز في بعض الأوقات، والذكر بالقلب مستدام في عموم الحالات». إلى أن قال: «وتحرم القراءة على الجنب، ولا بأس بسائر الأذكار من التهليل والتسبيح ونحوهما مع الجنابة أو الحيض والنفاس». وفي حديث أبي هريرة المشهور: “إن لله ملائكة يطوفون بالطرق يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قوما يذكرون الله تعالى، تنادوا هلموا إلى حاجتكم فيحفونهم بأجنحتهم” الحديث بطوله، وفيه يقول الله تعالى: (ما يقول عبادي؟ فيقولون: يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك) وفيه يقول رب العزة: (أشهدكم أني قد غفرت لهم، فيقول ملك من الملائكة، فيهم فلان ليس منهم إنما جاء لحاجة قال: هم القوم لا يشقى جليسهم)، فالحديث المذكور فيه من الثناء على الذاكرين، والغفران لهم ولغيرهم ببركاتهم، ما يدل على كونه مطلوبا مرغبا فيه شرعا.

وفي حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: «قلت يا رسول الله ما غنيمة مجالس الذكر؟ قال الجنة»، وفي حديث جابر قال: خرج علينا رسول الله ﷺ فقال: « يا أيها الناس، إن لله سرايا من الملائكة تحل وتقف على مجالس الذكر، فاغدوا وروحوا إلى ذكر الله»، وفي حديث أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما أنه ﷺ قال: «لا يقعد قوم يذكرون الله، إلا حفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده»، وهنا أطال الكلام إلى أن قال: وأما ذكر الاسم المفرد الجامع، ففي خبر أنه يدل على الذات بجميع صفاتها، فهو اسم جامع وسائر الأسماء الحسنى لا يحتوي واحد منها على ما احتوى عليه، لأن سائرها مشتق يدل على معناه الكلي، ولا يدل على الذات، إلا بدلالة التضمن، والذات المدلولة للمشتق الكلية لا المعينة، وكذلك اختص الاسم الجامع بكونه أشرف، وبكونه أعظم من ذكر غيره من أسمائه تعالى، وحاز تخصيصا زائداً على سائر مقاماتها لأنه جامع للذات والصفات كما مر، وهو معنى قول بعض الأئمة: إنه أعم، ومنها أنه هو الاسم الخاص به تعالى، وقد حقق الله الخصوصية فلم يمكن أحداً من التسمي به مع كثرة الجبابرة والفراعنة المدعين للألوهية، وفي هذا آية باهرة وحجة ظاهرة، ومنها أنه يضاف إليه غيره من الأسماء ويعرف به، ولا يضاف هو إلى غيره ولا يتعرف بشيء، ومنها أنه يوصف بغيره ولا يوصف الغير به، ومنها أن كل اسم يصلح للتعلق والتخلق، وهذا الاسم إنما هو للتعلق فقط دون التخلق. ومنها أنه قد اختص بخاصية، وهي أن معناه يصح ولو نقص منه شيء، فلو أزيلت الألف الأولى لبقي (لله)، ولو أزيلت اللام الأولى لبقي (له)، ولو أزلت اللام الثانية لبقي (ه)، فلو أشبعت ضمته صار (هو) فيكون كناية مستقلة، والكناية وإن احتاجت إلى خبر تتم به فائدتها، ومعاني تصيرها، فهي عند هذه الطائفة غنية عن ذلك، لأن المشار إليه حاضر عندهم، وهو الأول والآخر، فلا خبر ولا مطلب، وقد وقع بسبب هذا عدة أمور نقلت عن الوالهين، فلا حاجة لنا بذكرها، وحيث لم يلاحظ «أبو حيان» هذا المعنى الخاص اعترض على قول الطائفة «يا هو» بأن حرف النداء لا يدخل على الضمير، فأنشد بعض من رد عليه:

إذا لم ترا الهلال فسلم  *  لأناس رأوه بالأبصار

زد على ذلك ما ذكر أهل الأسماء مما يتعلق بحروفه مما لا تسعه هاته العجالة.

فإن قلت: إن ذكر الاسم المفرد خال عن الفائدة لعدم تركيبه قلنا الجواب عن ذلك ما ذكره الشيخ في الرسالة مفصلا فعليك به، وإن كنت أختار الجواب بمنع كونه غير مركب، لكونه منادى بإسقاط حرف النداء، وذلك وارد في كلام البلغاء كثيراً، ومن دعا الله باسم، فقد طلب منه معنى ذلك الاسم. فأين أنت ممن دعا بالاسم الجامع، فقد تعلق بكل واحد، قال تعالى: (والله الأسماء الحسنى فادعوه بها). والأمر للوجوب عند الأصوليين حقيقة. وفي الحديث: «إن لله عز وجل تسعة وتسعين اسماً من أحصاها»، أي قرأها كلمة كلمة مرتلة كأنه يعدها قاله المناوي دخل الجنة» هو (الله) دال على الإله الحق دلالة جامعة لجميع معاني الأسماء الآتية الذي (لا إله إلا هو) الحديث أخرجه الترمذي، وقال غريب وابن حبان والحاكم والبيهقي في شعب الإيمان.

وقد اختلف أهل السلوك بالذكر فيما يقع به الذكر على وجه الاختيار، إلى أن قال: والوجه الثالث فإن الاسم الحق هو المقصود بالذكر فهو أولى، ولأنه أسهل على اللسان، وأقرب إلى التأنيس، قال تعالى: (قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون)، وإن كان الأظهر في اسم الجلالة أنه بيان لمن: (أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدى للناس) فيكون خبراً لمبتدأ محذوف، أي قل: (هو الله). ويحتمل أن تكون الجملة منقطعة عما قبلها، وهو ما اختاره صاحب الحكم في قوله: «اهتدى الراحلون إليه بأنوار التوجه والواصلون إليه بأنوار المواجهة، فالأولون للأنوار وهؤلاء الأنوار لهم» (قل الله) الآية. والخوض هو الخبط فيما لا فائدة فيه، واللعب التشاغل بما لا فائدة له، ولذلك قال ﷺ: «أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل» رواه الشيخان وابن ماجه عن أنس، وفيه كفاية ولله الأمر من قبل ومن بعد، والسلام على الواقف عليه، قاله عبد ربه وأسير كسبه العباس بن أبي بكر البناني، وفقه الله والمسلمين لما فيه رضاه آمين.