التصوف رُوح الوجود ورَوحُ الوجدان من خلال النموذج الصوفي المغربي



التصوف رُوح الوجود ورَوحُ الوجدان من خلال النموذج الصوفي المغربي

ذ. عدنان زُهار- الجديدة

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وأصلي وأسلم على سيدنا محمد الفاتح الخاتم، وارض اللهم عن آله وصحبه،

أما بعد،

ديباجة

فإن التصوف من أجلِّ علوم الإسلام مرتبة وأرفعها قدرا وأعلاها شرفا، لأن موضوعه مرتبط ببيان أسهل طريق موصل إلى حضرة الرب عز وجل، وغايتُه تحقق السالك بمقام الإحسان المجموع في مرتبتيْ المشاهدة والمراقبة.

ولذلك اهتم علماء الإسلام منذ أن بدأ التدوين وقبله، بهذا العلم الجليل وصنفوا فيه المطولات والمختصرات والمتوسطات، واختلفت ألوان تآليفهم باختلاف غاياتهم ومرادهم فيها، وتشعبت كتب التصوف وانتشرت في بلاد الإسلام شرقا وغربا، وتنافس العلماء والشيوخ والصالحون في الكتابة في موضوعاته وفروعه وأصوله، وتعددت أساليب التصنيف في كل ذلك، بين ما كان منه موجَّها إلى أهل التخصص والسلوك، وبين ما كان مرادا به السالكون عموما والمريدون، وحظيت كتب أهله بالنسخ والنشر والاقتناء والحفظ، وتوسع الناس في الاهتمام بها إلى درجة التبرك ببعضها ومصاحبتها في الحل والترحال، لما ظهرت منها البركة في موضوعها وسرها .

ولقد كان لعلماء المغرب وصالحيه وأوليائه وأمرائه وخواصه وعوامه اهتمامٌ بالغ بهذا العلم الجليل، وأقبلوا عليه اعتقادا وسلوكا وتأليفا ودفاعا، وأنشأوا له مدارس وزوايا، حتى صار للتصوف المغربي مميزاتٌ خاصة وأشكال متميزة، تجعل له خصوصية في التأصيل والتفريع.

ومن جهة أخرى، فالتصوف علم من العلوم التي لها قصد جليل، بغرض أن يحقق في سلوكه وتطبيقاته معنى الخلافة عن الله سبحانه وتعالى الوارد بها قوله تعالى (إني جاعل في الارض خليفة).

ومن ثم ركز الشيوخ المربون على مبدإ تحقيق الأمن الروحي والأمان النفسي اللذيْن هما مقصود خلقة الخلق بموجب سياق هذه الآية الكريمة المعروف في كتب التفسير.

ولذلك فإننا نقول بأن التصوف هو روح الوجود أي الغاية والمقصد والكنه الذي من أجله وجدت الخليقة، ولذلك يحقق السادة الصوفية في تربيتهم على مبدأ تحقيق الخلافة الربانية والتي تتجلى في الوراثة المحمدية.

ورَوْح للوجدان لأنه يكون سببا لسعادة الروح التي تجد صفاءها بالعبودية الصحيحة والتي لا تكون إلا بالانتماء إلى الحضرة المحمدية.

وسيعالج هذا العرض -باختصار- هذا الأمر، ويذكر تلك الأركان التي أسس عليها التصوف والتي هي خادمة بالأساس لمقاصد الوجود الرباني، وأقسمه ابتداء إلى هذه الأقسام:

المبحث الأول: معنى التصوف حقيقةً ومقصدا.

المبحث الثاني: تحقيق الأمن الروحي والأمان النفسي والرخاء الاجتماعي بالتصوف.

المبحث الثالث: النموذج المغربي الصوفي تاريخ مجيد لتصوف سني سديد، من خلال الأحمدِيِّين الثلاثة:

المطلب الأول: أحمد زروق.

المطلب الثاني: أحمد بن عجيبة.

المطلب الثالث: أحمد التجاني.

 

المبحث الأول: معنى التصوف حقيقةً ومقصدا

فإن التصوف كبيرٌ قدره، جليلٌ خطره، عظيمٌ وقعه، عميقٌ نفعه، أنواره لامعة، وأثماره يانعة، واديه قريعٌ خصيب، وناديه يندو لقاصديه من كل خير بنصيب، يزكي النَّفس من الدَّنَس، ويُطهِّرُ الأنفاسَ من الأرجاس، ويُرقي الأرواح إلى مراقي الفلاح، ويُوصِلُ الإنسانَ إلى مرضاة الرحمان.

وهو – إلى جانب هذا – ركن من أركان الدين وجزء متممٌ لمقامات اليقين، خلاصته: تسليم الأمور كلِّها لله، والالتجاء في كل الشؤون إليه، مع الرضى بالمقدور، من غير إهمال في واجب أو مقاربة محظور. كثُرت أقوال العلماء في تعريفه، واختلفت أنظارهم في تحديده وتوصيفه، وذلك دليل على شرف اسمه ومسماه، يُنبئ عن سمو غايته ومرماه، فقيل: التصوف: الجِدُّ في السلوك إلى ملك الملوك، وقيل: التصوف: الموافقة للحق والمفارقة للخَلق. وقيل: التصوف ابتغاء الوسيلة إلى منتهى الفضيلة. وقيل: التصوف: الرغبة إلى المحبوب، في درك المطلوب. وقيل: التصوف: حفظ الوفاء وترك الجفاء. إلى غير هذا من الأقوال التي تبلغ نحو ألفٍ حكاها الحافظ الصوفيّ أبو نعيم الأصفهاني في كتابه “حِليةُ الأولياء”.

وسُئل الإمام أبو القاسم الجُنيد –سيد الطائفة- عن التصوف، فقال: “تصفية القلب عن موافقة البَريّة، ومفارقة الأخلاق الطبيعية، وإخماد الصفات البشريّة، ومجانبة الدواعي النفسانية، ومنازلة الصفات الروحانية، والتعلُق بالعلوم الحقيقية، واستعمال ما هو أولى على الأبديّة، والنصح لجميع الأمة، والوفاء لله على الحقيقة، واتّباع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في الشريعة”[1].اهـ

ولعل هذا أبلغ ما قيل في التصوف وكشف حقيقته، وإن كانت الأقوال السابقة مختلفة في اللفظ والمبنى، فهي متفقة في الغاية والمعنى، وإنما عبر كل قائل بحسب مَدرَكِه ومشرَبِه.

وعلى نحو اختلافهم في التصوف اختلفوا في معنى الصوفيّ واشتقاقه، فقال الإمام أبو علي الروذباري: وقد سُئل عن الصوفي: “من لبس الصوفَ على الصَفاء، وأطعمَ الهوى ذوقَ الجفاء، وكانت الدنيا منه على القفا، وسلك منهاج المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم”. اهــ.[2]

وقال الإمام سهل بن عبد الله التستري: “الصوفيّ من صفا عن الكَدَر وامتلأ من الفكرِ وانقطعَ إلى الله من البشر، واستوى عنده الذهب والمدر”اهـ[3]، وأنشد الإمام تقي الدين السُبكي:

تنازع الناس في الصوفي واختلفوا      قدما وظنوه مشتقا من الصـوفِ
ولستُ أنحل هذا الاسـم غـير فتى    صافى فصوفي حتى لقب الصوفي

وهذان البيتان لأبي الفتح البستي.

وقال العلامة الشيخ محمد ميارة المالكي في شرح “المرشد المعين”[4]: “وفي اشتقاق التصوّف أقوال، إذ حاصله اتصاف بالمحامد وترك للأوصاف المذمومة وقيل: من الصفاء”.

وقال المحقق أبو حفص الفاسي المالكي: “ظهر لي أنه منسوب إلى الصوف، لأنه في الغالب شعاره ودثاره، ولأن هذا اللفظ –يعني لفظ صوفي– مشتمل على ثلاثة أحرف منقطعة من ثلاث كلمات دالة على ثلاث معان هي أوصافه المختصة به، فالصاد من الصفاء، والواو من الوفاء، والفاء من الفناء”.

قال العلامة ابن الحاج[5]: “وقد أشرت إلى ذلك في ثلاثة أبيات، فقلت:

صفا منهل الصوفي عن عللِ الهوى      فما شاب ذاك الورد من نفسه حظ

ووفى بعهد الحب إذ لم يكـن لــه       إلى غير من يهــوى التـفـــات ولا حــظ

مَحَت آيــةَ الإظلامِ شمسُ نهـارهِ       وقـــــــــــــــد ذهبت منــــه الإشـارةُ واللفـظ

قلت: وللتصوف مقاصد عقدية وأخلاقية:

فمن مقاصده العقدية: تحقيق معنى التوحيد الذي بعثت الأنبياء لترسيخه في النفوس، وتذكير به الناسي، وتنبيه الغافل المعاند.

يقول الكاشاني في “فصل التوحيد”[6]: كل طائفةٍ تكلمت عنه: بعضهم بلسان العلم والعبارة، وبعضهم بلسان الذوق والإشارة، وما قدروه حق قدره، وما زاد بيانهم غير ستره، إلّا أن أرباب الذوق لمّا كانت إشارتهم عن وجدان وبيانهم عن عيان، لاحت إشارتهم لأسرار المحبين لوائح الكشف المبين، وأذابت عباراتهم قلوب المتعطشين لذة برد اليقين… وللتوحيد مراتب، علم وعين وحق، علمه ما ظهر بالبرهان وعينه ما ثبت بالوجدان وحقه ما اختص بالرحمن. أما التوحيد العلمي، فتصديقي إن كان دليله نقلياً وهو التوحيد العام، وتحقيقه إن كان عقلياً وهو التوحيد الخاص والمصدّق… وأما التوحيد العيني الوجداني، فهو أن يجد صاحبه بطريق الذوق والمشاهدة عين التوحيد… وأما التوحيد الرحماني: فهو أن يشهد الحق سبحانه على توحيد نفسه بإظهار الوجود، إذ كل موجود يختص بخاصيته، لا يشاركه فيها غيره، وإلّا لما تعيّن. اهـ

وقد اختلفت عبارات الشيوخ عن معنى التوحيد لأنهم عبروا بأحوالهم فقالوا:

قال السلمي: التوحيد _ حقيقةً _: معرفته كما عرَّف نفسه إلى عباده؛ ثم الاستغناء به عن كل ما سواه.

قَالَ يُوسُف بْن الْحُسَيْن: توحيد الخاصة أَن يَكُون بسره ووجده وقلبه، كَأَنَّهُ قائم بَيْنَ يدي اللَّه تَعَالَى يجري عَلَيْهِ تصاريف تدبيره وأحكام قدرته فِي بحار توحيده بالفناء عَن نَفْسه وذهب حسه، لقيام الحق سبحانه لَهُ فِي مراده منه فيكون كَمَا هُوَ قبل أَن يَكُون فِي جريان حكمه سبحانه عَلَيْهِ.

قالَ أَبُو سَعِيد الخراز: أول مقام لمن وجد علم التوحيد وتحقق بِذَلِكَ فناء ذكر الأشياء عَن قلبه وانفراده بالله عَزَّ وَجَلَّ.

قال الجنيد:” التوحيد إفراد للقدم من الحدث “.

سئل الجنيد عَن التوحيد الخاص فَقَالَ: أَن يَكُون العبد شبحا بَيْنَ يدي اللَّه سبحانه، تجري عَلَيْهِ تصاريف تدبيره فِي مجاري أحكام قدرته، فِي لجج بحار توحيده، بالفناء عَن نَفْسه وعن دعوة الخلق لَهُ وعن استجابته بحقائق وجوده ووحدانيته، فِي حقيقة قربه بذهاب حسه وحركته؛ لقيام الحق سبحانه لَهُ فيما أراد منه، وَهُوَ أَن يرجع آخر العبد إِلَى أوله فيكون كَمَا كَانَ قبل أَن يَكُون.[7]

ومن مقاصده الأخلاقية: التربية

سئل الجنيد بن محمد البغدادي عن التصوف فقال: اسم جامع لعشرة معا:

الأول: التقلل من كل شيء من الدنيا عن التكاثر فيها،

الثاني: اعتماد القلب على الله من السكون إلى الأسباب،

الثالث: الرغبة في الطاعات من التطوع في وجود العوافي،

الرابع: الصبر على فقد الدنيا عن الخروج إلى المسألة والشكوى،

الخامس: التمييز في الأخذ عند وجود الشيء،

السابع: الشغل بالله عز وجل عن سائر الأشياء،

الثامن: تحقيق الإخلاص في دخول الوسوسة،

التاسع: اليقين في دخول الشك،

العاشر: السكون إلى الله من الاضطراب والوحشة.

فإذا استجمع الصوفي هذه الخصال استحق بها الاسم وإلا فهو كاذب.

ويسرد الذين كتبوا في التصوف الكثير من أخلاق الصوفية مثل التواضع والإيثار والمواساة ويحملهم على ذلك فرط الشفقة والرحمة وقوة اليقين.

ومن أخلاقهم التجاوز والعفو ومقابلة السيئة بالحسنة، وقد روى عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال: رأيت قصورا مشرفة على الجنة فقلت يا جبريل لمن هذه؟ قال للكاظمين الغيظ والعافين عن الناس.

ومن أخلاقهم البشر وطلاقة الوجه، فالصوفي بكاؤه في خلوته وطلاقة وجهه مع الناس، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “كل معروف صدقة، وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق”.

ومن أخلاقهم التودد والتآلف والموافقة مع الإخوان وترك المخالفة، قال عليه الصلاة والسلام: “المؤمن يألف ويؤلف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف”.

ومن أخلاقهم رضي الله عنهم غيرتهم لله تعالى: إذا انتهكت حرماته نصرة للشريعة المطهرة فكانوا لا يفعلون فعلا يحبون أحدا ولا يبغضونه لعلة دنيوية.

ولذلك كان علماء السلف يدعون الناس إلى مرافقة الصوفية ومصاحبتهم حتى يتعلموا منهم ويتخلقوا بأخلاقهم، وفى ذلك ورد أن رجلا قال لسهل بن عبد الله التستري المتوفى عام 272هـ، رحمه الله: من أصحب من طوائف الناس؟ فقال عليك بالصوفية، فإنهم لا يستكبرون ولا يستكثرون.

 

المبحث الثاني: تحقيق الأمن الروحي والأمان النفسي والرخاء الاجتماعي بالتصوف

كتب الطبيب النفسي الدكتور مولاي إدريس الشاهد الوزاني كتابا قيما سماه: “العلاج النفسي وخطورة المنطلق –الأبعاد النفسية لعلم السلوك الإسلامي-” يبحث فيه عن المقارنة بين أساليب العلاج النفسي الطبية المعاصرة المعتمدة على التشخيص ثم وصف الدواء بالعقاقير، وبين العلاج الروحاني الإسلامي المتجسد في التصوف، وخلص إلى أن السلوك الصوفي أولى بالاعتماد من كثير من طرق العلاج النفسي الحديث.

ومما قال فيه[8]: الرياضة النفسية مجاهدة، مبارزة في حلبة الحياة بين قوى مختلفة ومتضادة، فهي صراع محتدم ومستمر ما دامت هذه الروح تسكن في قفص الشبح الآدمي ….

هناك بعد آخر يتحدث عنه بعض علماء السلوك، يختلف الأسلوب في التعبير عن نفس الحقيقة، دليل آخر على أن معين الروح لا ينضب أبدا، لأن طبيعتها: “.. و نفخت فيه من روحي …”، وحق لمتعجب أن يتساءل: ” ما عساه أن يضيف من يأتي بعد أربعة عشر قرنا على هذا الكم الزاخر من الكتابات و التفصيلات الخاصة بعلم السلوك؟!..

هذا البعد الذي أشرت إليه هو بعد جمالي، وأعني به جمال الروح، فكل آدمي لو ترك للروح التي تسكن بين جنبيه المجال للتحليق في العوالم التي خصها بها المولى عز وجل لنطق حكمة ولعبّرت هذه الروح عن حقائقها بأسلوب لم يسبقه إليه أحد، هو اختلاف في التعبير فقط وهو نفس المعنى، وهنا الإعجاز!…

إلى أن خلص فقال: علم السلوك بهذا المفهوم هو المؤدي حقا للصحة النفسية، للنفس المطمئنة والراضية، لذا ارتأيت أن أسمي علم السلوك بذروة العلاج النفسي من منظور إسلامي، فهو ذروة وفي نفس الوقت هو شيء عزيز، فالعاجز عن رياضة نفسه هو الغالبية العظمى في صفوف المسلمين، والذي عجز عن رياضة نفسه عيشه مكدر ومنغص ويشعر بثقل النفس وبجهد القلب، أي أن أدواته الإيمانية تشق طريقها بصعوبة كي يتحقق لها نوع من السير إلى الله تعالى كما سبق وأن بيناه في الفقرة السابقة.

علم السلوك إذاً يُتوّج العلاج النفسي من منظور إسلامي، فهو الذروة والقمة، لكن العلاج النفسي من منظور إسلامي واقعي ويبدأ من البداية خصوصا لدى الغالبية العظمى العاجزة عن رياضة نفسها …انتهى.

وخلاصة كلامه أن التربية الصوفية تربية روحانية وجدانية بالدرجة الأولى، وبها تتحقق الأغراض الوجودية للخلافة عن الله بروح مطمئنة لا تشوبها شوائب المنافسة ولا قلاقل الخوف والجزع من الرزق بأصنافه وضروبه.

ومعلوم أن الزاوية الصوفية كان لها الدور الهام والفعال في إشاعة روح السلم والاستقرار، حيث رسخت في النفوس قيما سلوكية راقية، كان لها الأثر الكبيـر في تفعيل ثقافة الأمن الروحي على أرض الواقع، عبـر رؤية تكاملية للديـن تحتـرم مقاماته الثلاثة: إسلام وإيمان وإحسان.

والمطلع على تاريخ المغرب، يقف على حقيقة تتمثل في الحضور القوي والعميق لهذا البعد الروحي، حيث أدرك المغاربة منذ البداية أن التصوف هو لب الإسلام، وحقيقته وروحانيته؛ لأنه يجسد مقام الإحسان بعد مقامي الإسلام والإيمان، فنجد الصوفية عبـر التاريخ حملوا هذه الرسالة ومثلوها بكل أبعادها، وتجلياتها في كل المجتمعات، والعصور تأكيداً للهدف الأسمى الذي يطمح إليه الديـن الإسلامي، وهو تحقيق وتـرسيخ مبادئ السلم والسلام والحوار والتعارف والتعايش والتسامح، وكلها قيم وأسس رسخها التصوف في النفوس، والقلوب والسلوك، والاعتقاد، والتداول بيـن الناس في مناخ مفعم بالتعايش السلمي والاستقرار الروحي بيـن اختلاف وتنوع الهويات، والديانات، والخصوصيات، مع نبذ لكل أشكال التطرف والعنف والتدميـر.

فهذا الاستقرار الروحي هو الدعامة الأساسية لتحقيق الأمن الحضاري، وهو ما يقوم عليه المنظور الصوفي الذي يجمع بيـنهما في توافق، وتـرابط، وتلازم، وتكامل.

والتصوف من الدعامات الكبـرى التي حافظت على الأمن الروحي للمغرب؛ لأن أهله تمسكوا بثوابت الهوية الديـنية اعتقادا، وعبادة، وسلوكا؛ فالاعتقاد نشر التسامح، وعدم تكفيـر أهل القبلة، والعبادة أنتجت السعة، والتجديد، والقدرة على مواكبة مستجدات العصر، والسلوك أثمر الروحانية، والوسع، والرحمة، وقبول الآخر، فتميزوا بصناعة النماذج الصالحة والقدوات الحسنة، التي بصمت تاريخ المغرب بآثارها الخالدة، والناصعة والمرصعة بأخلاق الوسطية والاعتدال، والتسامح، وحسن الكرم، وقبول الآخر، والانفتاح على مختلف الحضارات وحسن التعايش، والتساكن مع مختلف الديانات السماوية.[9]

 

المبحث الثالث: النموذج المغربي الصوفي تاريخ مجيد لتصوف سني سديد، من خلال الأحمدِيِّين الثلاثة

للتدين المغربي خصوصيات فريدة، تميزه عن باقي نماذج التدين في العالم الإسلامي مكانا وزمانا، تميزَ التنوع لا تميز التضاد والتنافر، تميزا جعله في أزمنة مختلفة منارة ومثالا يحتذى به، حتى صارت أرض المغرب ككعبة للطلاب، بل مأزرا للعلماء من شتى بقاع الأرض، لما لمسوه من ميزات وخصوصيات بها أمنت البلاد والعباد من قلاقل العصبية القاتلة والخلافات العقدية المفرطة، كما وقع كثيرا في أرض المشرق.

والتصوف المغربي له حظ من هذا التميز، فإنه وإن كان فحوله من أهل الحقائق العرفانيين ولهم خوض مكين في كلام المتحققين وناقشوا أحيانا أرباب الأحوال الغارقين، إلا أن الغالب على عنوان التصوف المغربي هو التربية والتزكية، وهي الأصل في مقام الإحسان الوارد به الحديث الشريف: “أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك”.

وهذا الموضوع ألف فيه كثير من الباحثين مشارقة ومغاربيين، وأنا أخص منه في هذا المختصر الحديث عن ثلاثة أعلام سميتهم بالأحمديين الثلاثة: أحمد زروق، وأحمد بن عجيبة، وأحمد التجاني.

المطلب الأول: أحمد زروق

أبو العباس أحمد بن أحمد بن محمد بن عيسى البرنسي الفاسي، والملقب بالشيخ زروق، ولد بفاس عام 846 هـ ومات عام 899 هـ.

ينطلق الشيخ زروق في كتابه “قواعد التصوف” من قاعدة أساسية، هي في تقديري الأرضية التي يبني عليها كل الأطروحات والأفكار؛ وهي أن علم التصوف علم مختص في “تمرين النفس لإثبات حسن الخلق، ودفع سيئها.

ويعرف الخلق بأنه هيئة راسخة في النفس، تنشأ عنها الأمور بسهولة، فحسنها حسن وقبيحها قبيح. وهو بهذا التعريف لا يختلف عن كثير من علماء التصوف الإسلامي الذين اعتبروا التصوف علم أخلاق بامتياز؛ فهذا ابن القيم يقول: “اجتمعت كلمة الناطقين في هذا العلم على أن التصوف هو الخلق”.

وهذا الإمام الجنيد البغدادي يعرف التصوف بأنه: “استعمال كل خلق سني، وترك كل خلق دني”، بل لقد اشتهرت في هذا الباب أن “من زاد عليك في الخلق، فقد زاد عليك في التصوف”.

ومن الجدير بالذكر هاهنا أن أبين أن الأخلاق في تجربة الشيخ لم تكن مجرد نظريات فلسفية، وإنما كانت تجربة وممارسة عملية؛ إذ التحلي بأخلاق الإيمان ليس ضربا من العلوم النظرية كباقي العلوم الأخرى، وإنما هو عملية ذوقية ووجدانية، وهو أمر لا يكتسب إلا بالتربية والممارسة”.

وفي نظره أن الأخلاق النفسانية لا تعتبر بالعوارض الخارجية إلا من حيث دلالتها عليها؛ ومن الأمثلة التي يضربها لذلك مثال البخل والسخاء، يقول رحمه الله: “فالبخيل من ثقل عليه العطاء، ولو لم يبق لنفسه شيئا، والسخي من سهل عليه العطاء، ولو لم يعط شيئا”.

وبناء على ذلك يقسم الأخلاق إلى قسمين: أخلاق جبلية وأخرى مكتسبة؛ فأما الأولى فقد تحدث عنها في القاعدة [179]؛ حيث أشار إلى أن النفس مجبولة على بعض الأخلاق، ومن ثم فهي جبلية في الجميع ولا يصح انتفاؤها؛ غير أنه يبقى التفاوت فيها بين الناس من حيث القوة والضعف، ومن حيث كذلك تحويلها عن مقصدها الأصلي إلى مقاصد أخرى. ومن ذلك الطمع مثلا؛ فالنفوس كلها مجبولة عليه، لكن المقصود الشرعي منه هو أن يتعلق القلب بما عند الله، توكلا، ورجاء، وأن يحرص على الدار الآخرة بدلا من الحرص على الدنيا.

وأما كون بعض الأخلاق والمحاسن تكتسب بالتمرن فقد أشار إليه في القاعدة [188]، حيث يقول: “اكتساب الأخلاق عند الحاجة إليها بزوال ضدها متعذر إلا بتوطين متقدم، وإلا تعب مريدها فيه، مستدلا على ذلك بحديث: “إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم، ومن يطلب الخير يعطه، ومن يتق الشر يوقه”.

فالتصوف الذي يقدمه الشيخ زروق تصوف مازج بين الشريعة والحقيقة، مركز على التربية والتزكية وإن لم يكن لاغيا للمقامات والأحوال العرفانية، مقوم للاعوجاج، ناصح للغفلة، ضارب بيد من حديد على البدع وطارد من دائرة التصوف كل دخيل.

المطلب الثاني: أحمد بن عجيبة الحسني

سيدي أحمد بن محمد ابن عجيبة الحسني، ولد عام 1161هـ بقرية في قبيلة الحوز بإقليم تطوان، تُعرَف باسم «اعجيبش». أخذ علومه الأولية بقريته المذكورة، فحفظ القرآن الكريم على جده المهدي الحسني، وأقرأه إياه الإمام أحمد الطالب، والإمام عبد الرحمن الكتامي الصنهاجي، والإمام العربي الزوادي، والشيخ محمد أَشمل، وحَفِظ المتون والمنظومات اللغوية والفقهية كالأجرومية، وألفية ابن مالك، والمرشد المعين، ونظم الخراز، وغيرها. ومات رحمه الله عام 1224ه.

لابن عجيبة كتب كثيرة تزيد عن الأربعين مؤلفاً، منها:

– أزهار البستان

– شرح همزية البوصيري

– شرح المنفرجة ” لابن النحوي

– وشرح البردة للبوصيري

– وشرح ” خمرية ابن الفارض

– وحاشية على الجامع الصغير

– شرح الوظيفة الزروقية

– شرح الحزب الكبير للإمام الشاذلي

– شرح الأسماء الحسنى

– شرح تائية الجعيدي

– طبقات الأعيان

– شرح الحصن الحصين

– شرح رائية شيخه البوزيدي

– شرح الأجرومية بالإشارة

– شرح نونية الشستري

– معراج التشوف إلى حقائق التصوف

– إيقاظ الهمم في شرح الحكم.

– الفتوحات الإلهية، وهو شرح على المباحث الأصلية.

– البحر المديد في تفسير القرآن المجيد.

– التفسير الكبير لسورة الفاتحة

– الدرر الناثرة في توجيه القراءات المتواترة

يلاحظ أن أكثر مؤلفاته في التصوف التربوي والعرفاني.

فسلوك الطريق عند ابن عجيبة له شروط، كما ورد في قوله: “إن سلوك طريق التصوف، وخصوصا لمريد الكشف والتحقيق لا يكون من غير التزام الطاعة والانقياد لشيخ محقق مرشد جامع بين حقيقة وشريعة، لأن الطريق عويص، وأدنى زوال يقع عن المحجة، يؤدي إلى غاية البعد عن المقصود”.

ومقصود مقام التصوف وجوهره عند ابن عجيبة “تصفية البواطن حتى يكون العبد في حالة يرضاها الله ورسوله ظاهرا وباطنا… وأما مقام التصوف فهو مقام الإحسان الذي فسره رسول الله عليه الصلاة والسلام بقوله: «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فهو يراك”، فهو يَعتبر -رحمه الله- أن علم التصوف:” … من أجل العلوم قدرا وأعظمها محلا وفخرا، كيف لا وهو لباب الشريعة، ومنهاج الطريقة، ومنه تشرق أنوار الحقيقة”.

المطلب الثالث: أحمد التجاني الحسني

هو أبو العباس أحمد بن محمد بن المختار بن أحمد بن محمد التجاني، ولد عام 1150هـ بقرية عين ماضي وتوفي بفاس رحمه الله عام 1230ه.

بنى الشيخ التجاني رضي الله عنه طريقته على خمسة أصول عامة[10]:

الأصل الأول: العلم بالشريعة

وهو ما أخذ به نفسه ودعا إليه أتباعه من العناية بالقرآن الكريم حفظا وفهما ودراسة، والعناية بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أسانيد ومتونا، واستنباطا للأحكام منهما بطرق أهل الفن اجتهادا واستحسانا واستصحابا ومراعاة للعرف والمصالح المرسلة ودفعا للمشقة إلى غير ذلك. وقد قال لأصحابه مقالته الشهيرة:” إذا سمعتم عني شيئا فزنوه بميزان الشرع فما وافق فخذوه وما خالف فاتركوه”.

الأصل الثاني: العمل بالشريعة

أي تطبيق المعرفة إلى عمل بالجوارح والقلب، في المعتقدات والعبادات والمعاملات والوقوف مع آداب الشريعة في المحسنات والعادات. فكان الشيخ رضي الله عنه يلزم من أراد الدخول في طريقته المحافظة على الصلوات الخمس على الوجه الأتم من طهارة كاملة وأركان تامة و حضور الجماعة والمحافظة على الوقت وعلى الرواتب وقيام الليل حتى قال رضي الله عنه لمن قال له: ”أنا لا أستطيع أن أصلي قبل الفجر ركعتين”: ”دع سبحتنا فأنت لا تصلح لطريقتنا ”. وكان وقافا عند حدود الشريعة لا يتعداها أبدا، متورعا عن الشبهات، ما ترك شيئا لله ثم عاد إليه، مكثرا من الصدقات والتبرعات. قال في الإراءة: ”فأهل هذه الطريقة هم الذين امتثلوا الأوامر الشرعية على وجهها، واجتنبوا مناهيه على وجهها، فيجب عليهم الوقوف عند حد الشريعة كما أوقف الله مقامهم على مقام شيخهم و نبيهم صلى الله عليه و سلم ” .

الأصل الثالث: شكر الوسائط والتأدب معهم

قال في الجواهر:” وسألته رضي الله عنه عن معنى قوله تعالى: ”يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة”، فأجاب بقوله: ”اتقوا الله وخافوا من شدة عقابه وابتغوا إليه الوسيلة التي تنقطعون بها عن غيره لتتصلوا به، ولا وسيلة أعظم من النبي صلى الله عليه وسلم، ولا وسيلة إلى النبي صلى الله عليه و سلم أعظم من الصلاة عليه. وقد أجاب رضي الله عنه عما حشيت به بعض كتب التفسير حول مقامات الأنبياء من الإسرائيليات بأجوبة شافية يطمئن إليها قلب الموقن وتنزجر عندها دعوى المشكك، وقد أمر أصحابه بالتأدب مع مقامات الأنبياء وعصمتهم من كل ما لا يليق بحضرة الحق، والتأدب مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤكد على عدالتهم ويوضح كل ما أشكل من أمورهم، ومع سائر العلماء والأولياء والأمراء خلفاء الله في أرضه. وقد منع الزيارة إذا كانت زيارة أغراض واستمداد وليست زيارة أدب وإخلاص لوجه الله، وأمر أن تعوض بالدعاء وإهداء الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا شك أن شكر من أجرى الله النعمة على يديه هو عين شكر الله عز وجل، والإيمان بأعظم الوسائط سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لا يتم الإيمان إلا به، وعقيدة أهل السنة والجماعة إثبات الفعل للعبد كسبا كما أثبته الله بقوله: ”وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى”. فالأوامر بنية الامتثال هي عين المعاينة لفعل الله.

الأصل الرابع: الإخلاص في التوجه

والإخلاص عنده لا يقتصر على إخلاص التوحيد، بل يشمل الإخلاص في الأعمال والمعاملات والآداب والإخلاص مع الله ومع النفس ومع الناس. وفي الإراءة (ج1 ص:26) ”وإن التجاني ظهر بطريقة التجريد، تجريد القلب مما سوى الله، وإن طريقته طريقة سهلة سمحة لينة قريبة لا سلوك فيها أصلا …، فتربيتها حسن الوقوف بباب المولى لا غير، فهو يجرد القلوب مما سوى الله ويرشدها إلى حضرة الله”؛ فاختار لأتباعه أن يسلكوا ما كان عليه الصحابة من عدم ملاحظة الغير مع الله، ويتبعوا طريقا واحدا لا اختلاط فيه ولا غبار عليه: ”وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه”.

الأصل الخامس: التسليم والرضا

ومعناه أنه في بساط الشريعة لابد من مباشرة الأسباب، وفي بساط الحقيقة لا اعتراض على مراد الله عز وجل، فمن كلامه في هذا المعنى:” واعلم أن أحوال الرسل عليهم الصلاة والسلام لا تتبع بالمناقشة والتفتيش، فيجب الاقتداء بهم في كل ما أتوا به، فإن الله ذكر هداهم حين ذكرهم، قال تعالى:” أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده”. فلا يحل لامرئ مسلم أن يناقش في أحوال الرسل عليهم الصلاة والسلام، قال تعالى:” وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله”. وقال جل وعلا:” من يطع الرسول فقد أطاع الله”، وهذا عام في كل رسول.

وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله وصحبه.


[1] “التعرف لمذهب التصوف” للكلاباذي،1/25.

[2] المصدر السابق.

[3] المصدر السابق أيضا.

[4] “شرح المرشد المعين”، ص:321.

[5] “حاشية ابن الحاج على ميارة الكبير”، ص:321.

[6] “اصطلاح الصوفية” للكاشاني، ص:57.

[7] “الرسالة القشيرية”، ص:125.

[8] “العلاج النفسي وخطورة المنطلق” للدكتور إدريس الوزاني، ص:287.

[9] مقالة: “التصوف والاستقرار الروحي في المغرب وإفريقيا”، د كريمة بوعمري.

[10] مقتبس من مقالة: “أسس التربية الروحية عند الشيخ أحمد التجاني” لمولاي أحمد طالبي.