الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
انكب العلماء–قديماً وحديثاً- على تقريب العقيدة الإسلامية وتيسير فهمها وعقد القلوب عليها، ومن أبرز من أقامهم الله سبحانه وتعالى في هذا المقام وشرّفهم به السادةُ الأشاعرة؛ فسلكوا في سبيل ذلك مسالك منهجية متنوعة؛ تنهل من عين الشريعة، وتنشُد الإبداع لا الابتداع، وتحث العقلاءَ على الاتّباع، ليتأتى للناس تعقُّلُ الأحكام العقدية وعَقدُ قلوبهم عليها، واكتساب اللّقاحات الوقائية ضدّ مختلف الانحرافات الفكريّة المتطرّفة، منتهجين نهج الإمام المجتهد المُجدد أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعريّ (ت324هـ).
وانتساب جمهور علماء الشريعة إلى الإمام الأشعري في العقيدة لم يكن تشهّياً أو تبعية عمياء، وإنما عن دراية وتمحيص لكتاباته وآرائه ومواقفه التي اتسمت بالوسطية والاعتدال في سياق تاريخي عصيب ظهرت فيه اتجاهات عقدية خطيرة؛ يمكن حصرها إجمالا في اتجاه مُغرق في إعمال العقل إلى درجة إهمال النص، وآخر مُغال في العمل بظاهر النص إلى درجة إقصاء العقل.
وهذه الوسطية التي اتسمت بها العقيدة الأشعرية أهّلتها لتكون أحد الثوابت الدينية للأمة المغربية، وفي سبيل ترسيخها دأب علماء المغرب على تقريب مضامين هذه العقيدة سالكين مسالك تقريبية متنوعة، وقد برعوا في استثمار هذه المسالك وتطويرها بحسب مستوى المتلقي المعرفي ومدى قدرته على الفهم والاستيعاب؛ فمن علماء المغرب من سلك مسلك الإيضاح لمعاني الاصطلاح العقدي، ومنهم من سلك مسلك التحقيق والتدقيق في مسائل عقدية أشكلت على أهل وقتهم وشغلت بالهم، ومنهم من سلك مسلك الجدل بقصد الإفهام والإفحام منافحة عن أصول الدين..
أما مسلك نظم العقد الأشعري التقريبي فقد حظي بعناية خاصة من قبل علماء المغرب، لما يحققه من منافع عظيمة في تيسير حفظ الأحكام العقدية، وتسهيل استحضار مسائلها وأدلتها؛ لأنّ من طبع الإنسان السويّ استعذاب اتِّسَاقَ الكلام المنظوم وترنِيمَتَه، لذلك أُقحمت المنظومات العقدية في المنظومة التعليمية بالمغرب منذ ما يقرب من عشرة قرون، وحظي كثير منها بعناية خاصة من قِبل العلماء شرحاً وبياناً.
ولم يقتصر علماء المغرب على وضع منظومات عقدية تقليدية بمثابة متون عقدية، بل طوّروا مسلك النّظم بجعله مُستجيباً لمُستجدّات الواقع؛ فنظموا ما تعجِز عن بسطه كثير من المطوّلات العقدية من عرض المسائل مع أدلتها اليقينية، وعرض دقيق المسائل ومناقشة مقالات المخالفين فيها، ونظموا الكتابات المنثُورة التي يصعُب حفظها واستحضار مسائلها بأدلتها ونُكتها، ونظموا أجوبة الأسئلة الواردة عليهم..
ومما يؤسف له أن هذه الجهود المغربية الكبيرة في نظم العقد الأشعري لما تحظ بعناية تليق بمقامها من قبل الباحثين والدارسين، وهو مما حفزني على تجلية التميّز المغربي منهجيا ومعرفيا في هذا الصنف من الكتابات من خلال هذا المقال، وذلك بعرض نماذج من أهم ما أنتجته قرائح المتكلمين المغاربة، موضّحاً خصائص كل نظم وما يتميز به عن الآخر.
هو أبو الحجاج يوسف بن موسى الكلبي المتكلم النحوي، الملقب بالضرير[1]، أصله من سَرَقُسْطة وسكن مراكش[2]، قال القاضي عياض: “كان من المشتغلين بعلم الكلام على مذهب الأشعرية ونُظّار أهل السُّنّة، عارفاً بالنحو والأدب..”[3]، وقال ابن بشكوال: “كان من أهل التبحر والتقدم في علم التوحيد والاعتقادات”[4].
من أبرز شيوخه: أبو بكر محمد بن الحسن الحضرمي المعروف بالمرادي (ت489هـ)، وهو أول من أدخل علم المعتقدات بالمغرب الأقصى، ولما مات خلفه تلميذه أبو الحجاج في علوم الاعتقادات[5]. ومن شيوخه كذلك أبو مروان بن سراج (ت489هـ)، وأبو علي الجياني (ت498ه)[6]، وعن المرادي كان أكثر أخذه[7]. ومن أبرز تلامذة أبي الحجاج الضرير القاضي عياض، قال رحمه الله في الغنية: “قرأتُ عليه أرجوزته الصغرى التي ألّف في الاعتقادات، (…) وأجازني أرجوزته الكبرى…”[8].
توفي -رحمه الله- بمراكش سنة عشرين وخمسمائة (520ه)[9].
وتذكر المصادر أن لأبي الحجاج تصانيف حسان وأراجيز مفيدة، ومما ورد من ذلك مُصرّحاً به أرجوزته الصغرى في العقيدة، وأرجوزته الكبرى[10] التي نُشرت موسومة بـ “التنبيه والإرشاد في علم الاعتقاد”[11].
هذا النظم من صنف الألفيّات العلميّة، يقع في أربعة وسبعين وثلاثمائة وألف (1374) بيت، ويمكن اعتباره أقدمَ نظمٍ عقديٍّ تقريبيٍّ على مذهب الإمام أبي الحسن الأشعري وصل إلينا، وأهمَّ وأفْيَدَ ما نُظِمَ مُستوعِباً جميع مباحث العقيدة المشهورة، مع براعة في نظم أدلة المسائل، وطرائق الحجاج، وإتقان في تقسيم أبوابه؛ إذ جعل أبو الحجاج الضرير نظمه هذا في تسعة وتسعين (99) باباً تيمّناً بعدد أسماء الله الحسنى، قال رحمه الله:
أبوابه كعدد الأسماء * للملك العليّ ذي الآلاء[12]
وقد نظمه أبو الحجاج الضرير بأيسر الطرق التي يتأتى بها التعقّل والحفظ، قال –رحمه الله-:
مُضَمَّنٌ علمَ أصول الدين * بأقرب الطُّرق في التّبيين
نَظَمتُهُ للحِفظ والتّفهُّمِ * رجاء رضوان الإله الأكْرمِ[13]
واللافت في نظم “التنبيه والإرشاد” تركيز الضّرير فيه على إيراد البراهين اليقينية التي يتأتى بها الإيمان الجازم بالأحكام العقدية، ويبدو ذلك جليّاً في مضامين الأبواب التمهيدية لنظمه؛ إذ أسفر في ثناياها عن أهمية الأدلة اليقينيّة في إثبات العقائد السُّنِّيّة مُبيِّناً أن إيراد البراهين العقليّة منهج رباني يحفز العقل الإنساني على التدبر والنظر لتأمين القلب من الشك في المعتقد الحق، قال –رحمه الله-:
فخير ما يُطلَب بالدّليل * معرفة الإله والرسول
لأنّها تَشْرُفُ بالمَعلُوم * والحظّ عند المَلِك القَيّوم
وأَمَرَ اللهُ بالاعْتِبَارِ*وبالتَّفكُّر والاسْتِبصَارِ
والمَيْز للحقّ من الأديانِ*وإنما يمتاز بالبرهانِ
وذمّ من قال بما لا يَعلمُ*واتّبع الأهواءَ فيما يحكُمُ
وجعل البُرهان نوراً سَاطِعاً*يهدي إلى الحقّ وفصلاً قاطعاً
ودلّ في التوحيد بالتّمانُعِ* لدى اختلاف الجمْع والتنازعِ
ودَلَّ في إعادة الإِنْسَانِ*بالابتداء إذ هُما سِيَّانِ
وردّ قولَ الطبيعيّ الجاحد*بقوله: تُسْقَى بماء واحد
فإنها مُختَلِفاتُ الطّعمِ*واتّفقت أسبابُها في الحُكمِ[14]
وجملة الأبواب التمهيدية التي مهّد بها نظمه الفاخر هي:
وقد برع أبو الحجاج في نظم معتقد أهل السنة مع أدلته العقلية والنقلية اليقينية مُجلّياً تعاضدها في غير مبحث عقديّ، قال رحمه الله في إثبات قِدَم الباري تعالى:
وفاعل الخَلْقِ قديمٌ لم يزَلْ*فلَمْ يكُن عن فَاعِلٍ عزَّ وجل
لأنه يُفضي إلى التَّسَلْسُلِ* لحادِثَاتٍ غيرِ ذِي أولِ
وَهَذِهِ إحَالَةٌ شَنْعَاءُ*حُدُوثُ مَا لَيْسَ لَهُ ابتِداءُ
ولو يكونُ لحُدوثٍ أهلاَ*لمْ يَكُنْ خالِقاً لِشَيْءٍ أصلاَ[15]
وقال –رحمه الله- في إثبات صفات المعاني الواجبة في حقه تعالى:
وَلَمْ يَزَلْ بِهذه الصِّفاتِ*العِلْمِ والقُدرةِ والحياةِ
والسَّمعِ والبَصرِ والإرَادَهْ*يُنْفِذُها في كُلِّ ما أرادَهْ
وَقَوْلهُ القديم مِن صِفَاتِه*وكُلُّها قَائِمَة بِذَاتِهْ
تَقْضِي بها أدِلَّةٌ سَمْعِيّهْ*وحُجَّةٌ ثابِتَةٌ عَقْلِيّهْ[16]
هذا وقد عدّ بعضُ الباحثين مُؤلَّفَ “التنبيه والإرشاد” نظماً لـ”كتاب الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد” لإمام الحرمين أبي المعالي الجويني[17]، لكن المتأمل في ثناياه، السّابرُ أغواره، يُلفي ناظمه الضّريرَ متفرّداً ببحث مسائل من اختياراته، لم يتعرّض لها الجوينيُّ في إرشاده، مع عدم إنكار ما يبدو فيه من تأثر بالكتاب المذكور الذي عَرَف شُهرة واسعة زمان المؤلف. ومن رام الاستزادة من هذا الموضوع فليطلع على دراسة قيمة لفضيلة الدكتور إدريس الفاسي الفهري موسومة بـ: “أثر الإمام الجويني في الفكر الأشعري بالمغرب من خلال نظم أبي الحجاج يوسف بن موسى الضرير”[18].
هو أبو محمد عبد الواحد بن أحمد بن علي ابن عاشر الأنصاري نسباً، الأندلسي أصلاً، الفاسي منشأً وداراً، عرف بابن عاشر الفاسي، العلامة الحجة المشارك، شيخ الجماعة بفاس ونواحيها. وُلد سنة تسعين وتسعمائة (990ه).
من شيوخه: أبو العباس أحمد بن عثمان اللمطي، والأستاذ أبو العباس الكفيف، وأبو العباس ابن القاضي المكناسي (ت1025هـ)، وابن أبي النعيم الغساني (ت1032هـ)، وأبو عبد الله القصار (ت1012هـ).
ومن تلامذته: سيدي عبد القادر الفاسي (ت1091هـ)، والقاضي محمد بنسودة (ت1076هـ)، وأبو عبد الله ميارة (ت1072هـ).
مرض فمات -رحمه الله- سنة أربعين وألف (ت1040هـ) وهو ابن خمسين سنة.
من مؤلفاته: المرشد المعين على الضروري من علوم الدين، وجواهر الدرر على مختصر خليل.
اشتمل نظم العلامة ابنِ عاشر الموسوم ب”المرشد المعين على الضروري من علوم الدين” على ما يجب على المكلَّف تعلمه ولا يَسَعُه تركه من العقائد والفقه والتصوف، ويقع في سبعة عشر وثلاث مائة (317) بيت، وهو من أشهر المتون المُقرِّبة لعُرَى الدين الثلاث.
في عقد الاشعري وفقه مالك* وفي طريقة الجنيد السالك
ويقع قسم العقيدة من هذه المنظومة في واحد وأربعين (41) بيتاً جمعت مباحث أصول الدين الثلاث من إلهيات ونبوات وسمعيات، مع براعة في نظم البراهين والحجج على مسائلها بما يتلاءم مع المبتدئين في طلب علم العقيدة؛
لَوْ لَمْ يَجِبْ وَصْفُ الغِنَى لَهُ افْتَقَرْ*لو لم يَكُنْ بِوَاحِدٍ لَمَا قَدَرْ
لَوْ لَمْ يَكُنْ حَيّاً مُرِيداً عَالِماً*وَقَادِراً لَمَا رَأَيْتَ عَالَماً[20]
وقد اشتهر قسم التوحيد هذا شهرة المتن المُتضمِّن له، فخصّه كثير من العلماء بعناية كبيرة، فمنهم من أفرد قسمَ التوحيد منه بالشرح كالعلامة أبي عبد الله محمد بن قاسم جسوس (ت1182ه) وغيره، ومنهم من تعرّض لذلك عند شرحه المتن كاملاً كالشيخ أبي عبد الله مَحمد ميّارة الفاسي (ت1072هـ) وغيره.
هو أبو عبد الله وأبو حامد سيدي محمد العربي ابن الشيخ أبي المحاسن سيدي يوسف الفاسي الفهري، شيخ الإسلام، نادرة الزمان حفظاً وفهماً وإتقاناً.
وُلد بحومة العيون بفاس سنة ثمان وثمانين وتسعمائة (988هـ).
من شيوخه: والده المتقدم ذكره الشيخ أبو المحاسن، وعمه العارف، وشقيقه أبو العباس، وأبو زكريا يحيى السراج.
ومن تلامذته: بنوه الأربعة: أبو نصر عبد الوهاب، وأبو الحجاج يوسف، وأبو فارس عبد العزيز، وأبو محمد عبد السلام، وابن أخيه: سيدي عبد القادر الفاسي.
توفي -رحمه الله- سنة اثنتين وخمسين وألف (1052هـ).
من مؤلفاته: نظم مراصد المعتمد في مقاصد المعتقد، ومنظومة تلقيح الأذهان بتنقيح البرهان، والطالع المشرق من أفق المنطق، ومنظومة حاذى بها مقدمة ابن آجروم، ومنظومتان في ألقاب الحديث.
هو نظم يقع في ستة وأربعين وستّمائة بيت، مستوعب جميع مباحث العقيدة المشهورة؛ إذ قدّم نظمه بسابقة تعرض فيها للعلم وأقسامه، والحكم العقلي وأقسامه، والحكم بقسميه عند الأصوليين، ثم انتقل فيها للحديث عن أول واجب على المكلف، ثم نصب أربعة مراصد رئيسة ضمنها قواعد العقائد؛ فأفرد المرصد الأول لما يرجع إلى ذاته تعالى من الصفات، وخصّ المرصد الثاني لباقي صفاته تعالى، وجعل المرصد الثالث لأفعاله جل وعلا، وأفرد المرصد الرابع الأخير للرّسالة وما أخبرت به (النبوات والسمعيات).
وختم نظمه بلاحقة مكمّلة تعرض فيها لبيان حقيقة جملة من المسائل المهمة المتصلة بالعقيدة؛ كأشراط الساعة، والروح، والموت، والشهيد، والأجل، والصغائر والكبائر، والإيمان والكفر، والسنة والبدعة، والتوبة، والولي، والصحابة.
وقد حاول العلامة العربي الفاسي في سياق بيان ما تقرر من عقائد أهل السنة التنبيه على مواطن الخلاف في الفرعية منها، معتضداً بمقالات كبار المتكلمين؛ كالقاضي الباقلاني، والإمام الغزالي، والإمام المقترح، والإمام العضد الإيجي.. قاصداً في كل ذلك التقريب دون إيجاز مخل أو تطويل ممل، قال رحمه الله:
قصدتُ فيه البَسْطَ والتّسْهِيلاَ** ومعَ ذا لم أقْصِد التَّطْويلاَ[22]
ومن أجل الالتزام بقصده المذكور أحْجَمَ ناظم المراصد عن ذِكْر مقالات المُخَالِفين في الأصول، وقد أفصح عن ذلك بقوله:
وصُنْتُهُ عَنِ التَّعَرُّضِ لِمَا**لَهُ لِمَذْهَبِ الضَّلاَلَةِ انْتِمَا[23]
أرشد العلامة سيدي العربي الفاسي في آخر نظمه السابق: “مراصد المعتمد” مَن رام الاستزادة من الأدلة والبراهين اليقينية المتعلقة بمسائله إلى الاطّلاع على نظمه الذي أفرده في ذلك وسمّاه بِـ “تلقيح الأذهان بتنقيح البُرهان على مقاصد المُعتَقَد من مراصد المُعْتَمد”
أشار –رحمه الله- إلى ذلك بقوله:
ومَنْ يُرِد حِفْظَ الأَدِلَّة فَفِي**”تلقيح الأذهان” لَنَا قَدْرٌ يَفِي[24]
وقد برع العلامة العربي الفاسي في نظم أدلة مسائل العقيدة وفق منهج رصين، وجعل نظمه هذا قائما على ثلاثة محاور رئيسة أوردها منظومة:
طالعة التأصيل والتمهيد* في الكلام في النظر والتقليد[25]
جامعة التحصيل، للإجمال والتفصيل
فتنزيل البراهين، على قواعد أصول الدين[26]
تابعة التكميل والاعتذار
بذكر موجبات العلم ووجه الاختصار[27]
وقد تجلت فيه براعة العلامة العربي الفاسي في نظم أدلة مسائل العقيدة وفق منهج رصين موازن بين العقل والنقل:
قال -رحمه الله- في إثبات رؤية الباري جل وعلا سمعاً:
فكونُها واقعةً في الآخرهْ*الآيُ والأخبارُ فيها ظاهِرهْ
كَمِثْلِ آيةِ وُجُوهٌ يومئذْ* ناظِرةٌ ومن يُؤَوِّلها انْتُبِذْ
وكحديثِ ستَرَوْنَ رَبَّكُم*وقد رواهُ عددٌ قدْراً عَظُمْ[28]
ثم قال –رحمه الله- في إثبات القِدَم عقلاً:
ومطلبُ القِدَمِ كَشْفاً اكتفى * برهانُه بأنه لو انتَفَى
لثَبَتَ الحُدُوثُ ثُمّ يفتَقِرْ* لمُحْدِثٍ وهو أيضاً مُفتَقِرْ[29]
وختم سيدي العربي الفاسي نظمه هذا بأبيات رفيعة في بيان مذاهب أهل السنة المعتبرة في العقيدة ومسالكهم في الاستدلال مؤكداً على أن أئمة هذه المذاهب مجمعون على الأصول العقدية الثابتة وليس الاختلاف بينهم إلا في طرائق الإثبات وبعض الفروع العقدية، ومحذراً من خطر بث الفرقة والنزاع وإقصاء المخالف بتبديعه وتكفيره.
قال –رحمه الله-:
اعْلَمْ بأنَّ علماءَ السُّنَّهْ* على اعتقادٍ واحدٍ مُسْتَنَّهْ
ما بينهم فيه خلاَفٌ يُعرَفُ* لكن في طُرْقِ الوُصُول اختلفُوا
وهم طوائفُ بالاستقراءِ* ثلاثٌ إن عُدّتْ بلا امتراءِ
أولُها طائفة النُّظّار * مُستعملي العُقُول والأفكارِ
وقُطبُها الشيخ الجليل الأشعري*الثابتُ الرأي السّديدُ النّظرِ
وَهْوَ إمامُ عُلَماءِ السُّنّهْ* وهْوَ منَ اللهِ عليها مِنّهْ
فهْو الّذي قد نهج الطَرِيقَا* والحَقَّ قد أوضَحَ والتّحقيقَا
والسُّنَّةُ اعتزّت به على الفِرَقْ*وأضحَتِ البدعةُ منه في فَرَقْ[30]
ثم قال:
وهكذا جاء الإمامُ المُرتَضَى * المَاتُريدِيُّ الحُسامُ المُنْتَضَى
حتى غدَتْ أتباعُهُ جَمَاعَهْ* تُعْزَى إليه وتُرَى اتِّبَاعَهْ
بالحَنَفِيَّةِ تُلَقّبُ لِمَا * لها لِذَاكَ في فُرُوعِهَا انْتِمَا[31]
ثم قال-رحمه الله-:
ثَانِيَةُ الطوائفِ المذكُورَهْ*أهل الحَدِيثِ العِلْيَةُ المشكُورَهْ
وحبّذا أهل الحديث النّبويّ* وسالِكُوا طريقة العَدْلِ السَّوِيّ
وهم أدلّتُهُمُ السّماعُ* الذِّكْر والسُّنّة والإجماعُ[32]
ثم قال رحمه الله:
ثالثةُ الطوائف الصُّوفيّة * السّادةُ المخصُوصةُ الصَّفيَّة
وهُم أدلّتُهُم الوجدانُ* والكَشْفُ والإلهامُ والعِيَانُ[33]
ومن أهم ما اعتضد الناظم به في تنقيح البرهان على مقاصده المتقدمة شرح الحاجبية للبكّي، وشرح النّسفية لسعد الدين التفتازاني، والاقتصاد لحجة الإسلام الغزالي.
ما يميز هذه الأنظام المغربية المختارة أن كل واحد منها متميزٌ عن الآخر بخصيصة؛ فنظم أبي الحجاج الضرير الموسوم ب “التنبيه والإرشاد” أعمق وأوسع من مراصد أبي عبد الله العربي الفاسي، مستوعبٌ المنافحة عن أصول الدين والرد على المخالفين بالحجج القطعية. ومراصد أبي حامد لوحده أدق وأبين من توحيد المرشد المعين لابن عاشر، واجتماع المراصد مع التلقيح مُغنٍ للباحث المقتصد عن كل ما نظم في العقيدة، حافزٌ المجتهدَ على النظر في كتابات كبار المتكلمين، ومُذلِّلٌ له عقبات تعقُّلِه مواقفَهم وطرائق استدلالاتهم. ونظم توحيد المرشد المعين جمع بين الاقتصاد في النظم والاقتصار على ذكر ما ينفي الأمية العقدية عن الناس مع الاعتناء بالدليل والبرهان بقدر ما تتحمله أذهان المبتدئين والمقتصدين، وإلى ذلك أشار العلامة ابن عاشر بقوله:
وبعدُ فالعون من الله المجيد* في نظم أبيات للأمي تفيد[34]
وبذلك تأتى الإسفار عن جانب مهم من براعة المغاربة في تقريب العقد الأشعري، لعله يزيل الغشاوة ويبدي الوجهة، فيشحذ همم الباحثين للاعتناءِ بما كتبه علماؤنا الأجلاء والاعتزازِ به والمنافحة عنه.
هذا ولا أدعي الإحاطة في هذا المسطور، أو الإتيان بما يخلو من قصور، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
القرآن الكريم برواية ورش عن نافع.
[1] الغنية، للقاضي عياض، ص. 226.
[2] انظر: التشوف، لابن الزيات، ص. 105. وأزهار الرياض، للشهاب المقري، ج.3، ص. 161.
[3] المصدر نفسه.
[4] الصلة، لابن بشكوال، ص. 644.
[5] انظر: التشوف، لابن الزيات، صص. (106-105).
[6] انظر المصدر نفسه، ص. 105.
[7] انظر الغنية، ص. 226.
[8] الغنية، ص. 226.
[9] التشوف، لابن الزيات، ص. 105.
[10] انظر: الغنية، ص. 226. والصلة، ص. 644، وأزهار الرياض، ج. 3، ص. 161.
[11] نشر وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمملكة المغربية، ط.1: (1435هـ-2014م)، بتحقيق الأساتذة: سمير قوبيع، ومحمد العمراني، ونور الدين شعيبي.
[12] التنبيه والإرشاد، لأبي الحجاج يوسف الضرير، ص.47.
[13] التنبيه والإرشاد، ص. 46.
[14] التنبيه والإرشاد، ص. (48-49).
[15] التنبيه والإرشاد، ص. 95.
[16] التنبيه والإرشاد، ص. 103.
[17] انظر: فهرس الكتب المخطوطة في العقيدة الأشعرية، ج.2، ص.519.
[18] وهي عبارة عن مداخلة شارك بها فضيلة الدكتور إدريس الفاسي الفهري في الندوة العلمية: “الفكر الأشعري بالمغرب والمنهجية الجوينية”، التي انعقدت يومي 19-20 مارس 2014، بتطوان.
[19] انظر ترجمته في: نشر المثاني، للقادري، ج. 2، ص. 402. وسلوة الأنفاس، للكتاني، ج.2، ص. 310.
[20] المرشد المعين، ص. 14.
[21] انظر ترجمته في: نشر المثاني، للقادري، ج. 2، ص. 10. وسلوة الأنفاس، ج.2، صص. (354-352).
[22] مراصد المعتمد، نسخة مخطوطة خاصة، (ل.17).
[23] مراصد المعتمد، نسخة مخطوطة خاصة، (ل.17).
[24] المصدر نفسه.
[25] تلقيح الأذهان، نسخة مخطوطة خاصة، (ل.2).
[26] المصدر نفسه، (ل.3).
[27] تلقيح الأذهان، نسخة مخطوطة خاصة، (ل.14).
[28] تلقيح الأذهان، نسخة مخطوطة خاصة، (ل.5).
[29] المصدر نفسه.
[30] تلقيح الأذهان، نسخة مخطوطة خاصة، (ل.14).
[31] المصدر نفسه.
[32] المصدر نفسه.
[33] المصدر نفسه.
[34] المرشد المعين، ص. 7.