أكرم الله تعالى الأمة المغربية بقيامها على ثوابت عريقة، منبثقة عن الدين وشريعته، وقائمة على الارتباط بالخصوصية المغربية في أبعادها الدينية والتاريخية والحضارية، وفي أبعادها الثقافية وأعرافها المرعية، مما جعل هذه الأمة اليوم توصف بكونها من بين أعرق الأمم، كيف لا وهي أمة لها أدوار مهمة في بناء التراث العالمي المشترك، بحيث يجد الباحث في كل فن من فنون العلم[1] والمعرفة الإنسانية، مساهمة معتبرة من قبل المغاربة عبر تاريخ بلدهم الطويل، والحافل بالأحداث والتجارب، والنظم المختلفة، ومنها النظام الديني والسياسي القائم على إمارة المؤمنين باعتبارها جوهر الأمة وقلبها النابض، وقائدها البارع، وموجهها الملهم، لا يفتر عن العمل دون ملل ولا كلل في تحقيق المصالح العامة لها، والساهر على وحدتها ومنعتها، واستقرارها، والحافظ لحقوقها، والناطق باسمها في كل المحافل والتجمعات، ولهذا يدين كافة أفراد الأمة المغربية لإمارة المؤمنين بالولاء، ويتعلقون بأهدابها، ويباركون خطواتها، ويحتفلون بذكرى عيد عرشها وفق خصوصيات متميزة، بحيث تعتبر هذه الذكرى من أهم الذكريات المنتظرة بكثير من الفرح والسرور في كل سنة، ويكون احتفال الأمة بعيد العرش بإعلان تجديد الشرعية الدينية والدستورية والتاريخية لنظام البيعة وبتجدد الوفاء والعهد بين الإمام وأمته، وبتكريس الخصوصية القائمة على خدمة ثوابت الأمة ورعايتها.
ومع إطلالة عيد العرش السعيد يطيب لنا أن نتحدث عن بعض التأملات المرتبطة بعلاقة ثوابت الأمة المغربية بمؤسسة إمارة المؤمنين، (أولا)، وعن فلسفة الاحتفال بعيد العرش (ثانيا)، والله الموفق.
الأمة المغربية لها ثوابت مقدسة وأركان مؤسسة تقوم عليها، وتتمثل في: العقيدة الأشعرية، ومذهب الإمام مالك، والتصوف السني وإمارة المؤمنين، ومن ثم فإن العلاقة فيما بين هذه الثوابت تبدو واضحة من جهة قيامها كلها على الدين الإسلامي، وبكونها من المبادئ الدستورية الضاربة في أعماق التاريخ، وناشئة عن نصوص الشريعة لاسيما القرآن الكريم، حيث قال الله تعالى: ﴿اِنَّ اَ۬لذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اَ۬للَّهَ يَدُ اُ۬للَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْۖ﴾[2].
وهذه البيعة تقوم على أساس حفظ مقام الإيمان، وحفظ الدين وصيانة أحكامه، والقيام بأركانه، ولهذا كانت إمارة المؤمنين في المملكة المغربية الشريفة ولا زالت تتميز بعدة سمات هامة تكرس خصوصية النموذج المثالي لسياسة الدين والدنيا معا، وتتجلى فيها العلاقة القائمة بين هذه الثوابت وترابطها، ومن هذه الخصوصيات ما يلي:
إذ الإمام في النصوص الشرعية هو مصطلح له من الحمولة الدينية بمعناها العقدي وبمعناها المذهبي ومعناها الصوفي، ما هو جدير بالاحترام والتقدير، وفق المقاييس والمقادير الشرعية والحقوقية، وبيان ذلك؛ أن مصطلح أمير المؤمنين من حيث كونه خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو إذن قائم على ما كان يقوم عليه النبي صلى الله عليه وسلم من حفظ الدين وحفظ الملة، وحفظ حقوق الأمة وإقامة العدل فيها، وسياسة البلاد سياسة تحقق الأمن والاستقرار في ربوعها، وبين أفراد الرعية على أتم ما ينبغي.
والمعروف عن ملوك المغرب قاطبة من أولهم إلى من بيده الأمر اليوم منهم، تعلقهم بالدين والذب عنه وحراسته وتعظيم حرماته، وكمثال على هذا فإن المولى إدريس رضي الله عنه أقام دولته على أساس من الدين، وتدل رسالته الخالدة التي بعثها لأهل المغرب على هذا التوجه.
والملوك الذين أتوا من بعده لم يحيدوا عن هذا النهج أيضا، فنجد مولانا الحسن الأول رحمه الله على سبيل المثال، كان متعلقا بالدين، “ولا يشعر بأي نقص ولا بأية عقدة وهو يقول إنه مسلم وإنه متدين، نلاحظ هذا في كتاباته، وفي خطاباته، في رسائله إلى رؤساء الدول عندما يستدل بالآية القرآنية ويستدل بالحديث الشريف، لا يشعر بأية عقدة، بل على العكس من ذلك يشعر بأنه يؤدي رسالة أسلافه وأجداده.”[3] كما أن من أتى بعده من ملوك الدولة العلوية الشريفة لم يحيدوا عن ذلك، فمولانا محمد الخامس عرف عنه قوة إيمانه ويقينه بالله وثقته بنصر الله تعالى، وقد تحدث الأستاذ محمد المختار ولد اباه عن الحياة الإيمانية لهذا الملك البطل، وبعد أن قسم الإيمان إلى إيمان الجاحدين المشار إليه في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَّكْفُرْ بِالِايمَٰنِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُۥ وَهُوَ فِے اِ۬لَاخِرَةِ مِنَ اَ۬لْخَٰسِرِينَۖ﴾[4]، والإيمان الحق الذي ينقسم إلى إيمان المؤمنين وإيمان أهل اليقين، وبعد أن قرر ما يرتبط بهذا النوع الثاني من الإيمان الحق قال ما نصه: “ولقد كان محمد الخامس رحمه الله من أهل هذا الإيمان، فلقد كانت نفسه مطمئنة، وكانت السكينة تشع في نفسه، ولقد كان جميع الذين عرفوه، يلمسون عن كثب، مظهر ذلك الإيمان الذي يتجاوز شخصه. فيحس مجالسه بقوة جاذبة ذات تأثير بالغ، يغمر من يدنو منه، ولقد عبر عنها بعض الباحثين “بالابتسامة الساحرة”، كما أن جلالة الملك الحسن الثاني، وهو أعرف الناس به، لم ينس هذه “الابتسامة” حين قال في أحرج لحظات تاريخ كفاح الملك وأسرته (لحظة النفي): “ولقد كنت أنظر إليك نظرة إشفاق، ورأيتك تبتسم قائلا: «لا تحزن إن الله معنا»[5].”
وقد كان مولانا الحسن الثاني، طيب الله ثراه، على نهج أسلافه في تعظيم حرمات الدين عالما محققا لأحكامه وتعاليمه، عاملا على نصرته من خلال مواقفه الثابتة ومبادراته العديدة التي قام بها لصالح قضايا الأمة الإسلامية، جاعلا من المملكة المغربية منبرا للدفاع عن المقدسات الإسلامية، مثل قضية القدس، وعمله الفعال في منظمة المؤتمر الإسلامي وغير ذلك مما لا يتسع المقام بذكره.
كما أن العهد الميمون والزاهر لمولانا الإمام محمد السادس حفظه الله يعرف نهضة دينية كبرى على المستوى الداخلي وعلى المستوى الإفريقي و الدولي، وتهم هذه النهضة المباركة؛ الإصلاح المؤسسي، والتعليمي، والاعتناء بالقيمين الدينيين وتكوينهم وتأطيرهم، وبناء المساجد بالمملكة وبكثير من الدول الإفريقية وغيرها، والاعتناء بالمصحف الشريف وطباعته ونشره، وتوزيعه، لاسيما على مغاربة العالم في إطار عملية “مرحبا” حيث تم توزيع ما يزيد عن 29 ألف نسخة على أبناء المغرب المهاجرين وبعض الأفارقة والأوربيين، خلال الصيف الماضي (2023م)[6] بميناء طنجة المتوسط على وجه الخصوص، وتعد هذه المبادرة، عمليه رائدة حققت إشعاعا دينيا كبيرا، وحازت على الثناء الجزيل من قبل الخاص والعام.
كما أن خطابات مولانا الإمام دائما ما تحمل في عباراتها ما يدل على الهوية الدينية لإمارة المؤمنين وارتباطها بالإيمان الحق، ومن ذلك ما ورد في خطاب العرش لسنة 2022م عند كلامه الشريف عن مدونة الأسرة حيث قال حفظه الله ونصره: “وبصفتي أمير المؤمنين، وكما قلت في خطاب تقديم المدونة أمام البرلمان، فإنني لن أحل ما حرم الله، ولن أحرم ما أحل الله، لاسيما في المسائل التي تؤطرها نصوص قرآنية قطعية.
ومن هنا، نحرص أن يتم ذلك، في إطار مقاصد الشريعة الإسلامية، وخصوصيات المجتمع المغربي، مع اعتماد الاعتدال والاجتهاد المنفتح، والتشاور والحوار، وإشراك جميع المؤسسات والفعاليات المعنية.”
كل هذا وغيره كثير مما لا مجال لعده في هذا المقام من جليل الأعمال التي يقوم بها جلالته بصفته أميرا للمؤمنين، فيما يرتبط بحفظ مقام الدين، مما يجعلنا نعتقد بحق أن أمير المؤمنين نصره الله، من جملة المجددين في مناهج دراسة الدين ونشره، والذين ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم في حديث رواه أبو داود في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها”.
كما أن أمير المؤمنين باعتباره إماما وخليفة للرسول صلى الله عليه وسلم عندنا في مغربنا ومنذ عصور خلت، هو في الحقيقة الشرعية ينتمي إلى بيت النبوة، ومن نسل سيد الوجود عليه أفضل الصلاة والتسليم، بواسطة سيدتنا فاطمة الزهراء والإمام علي رضي الله عنهما، ومن تناسل منهما إلى وقتنا الحاضر. ولا يخامر المؤرخين شك في شرف هذه السلالة الشريفة[7] وقد وصف السيد محمد بريم التونسي متحدثا عن العائلة العلوية الحاكمة في المغرب ما نصه: “عائلة شريفة ثابتة النسب برسول الله…”[8]
وهذه ميزة كبرى، وقيمة عظمى تجعل هذه الإمامة عندنا ذات أثر كبير على الحياة الدينية والسياسية والاجتماعية وغيرها.
وأهم ما هنالك هو أثر هذه الإمامة في تحقيق الاستقرار في البلاد، مع ملاحظة أن هذا الاستقرار يشمل جميع النواحي: استقرار أمر الدين، واستقرار أمر المجتمع، واستقرار نظام الأمة برمته…
ولا شك أن عامل الاستقرار هذا، آت من جهة استقرار نظام إمارة المؤمنين عندنا، ورسوخها التاريخي، وذلك أن هذا النظام ليس وليد اليوم، وإنما هو نظام ضارب في أعماق التاريخ، ويربط الحاضر بالماضي بدون انقطاع مند مئات السنين، بحيث لو أردنا أن ننسب أمير المؤمنين إلى آبائه، فإن ذلك لا يتأتى إلا بأن نقول: هو أمير المؤمنين ابن أمير المؤمنين…
ويعجبني هنا أن أردد ما قاله ابن الونان في سيدي محمد بن عبد الله في قصيدة طويلة مشهورة تعرف بالشمقمقية حيث قال:
محمد سبط الرسول خيـــر من * ساد بحسن خَلْقِـــهِ والخـُلُــقِ
أعني أمير المؤمنين ابن أميــــ * ـر المـؤمنين ابن الأمير المتقي
ولا يخفى ما في هذين البيتين من الاطراد؛ وهو عبارة عن ذكر اسم الممدوح ولقبه وكنيته اللائقة به واسم من أمكن من أبيه وجده وقبيلته ليزداد الممدوح تعريفا… والمقصود هو إرادة القول؛ بأن الممدوح مُعْرِق في الخلافة والملك، ليس حديث العهد، ولا جديد الشرف والمجد. قالوا: ولا يكون مُعْرِقاً حتى يكون الثالث فما فوقه، وهو كذلك في ممدوح الناظم.[9]
فما أشبه الحفيد بالجد في الخِلقة والأخلاق والعراقة، والملك، فهذان البيتان ينطبق معناهما تمام الانطباق على أمير المؤمنين صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله، فيما حُلي به من حميد الخصال الخِلقية والخُلقية، حتى أضحى محبوب الشعب والأمة بلا منازع.
فهذا شأن إمارة المومنين، لا يمكن إلا أن تكون ذات علاقة كبرى بأساس العقيدة وأساس المذهب، وأساس السلوك الصوفي السني، علاقة تدين وممارسة، وحفظ وحراسة.
فقد قامت إمارة المؤمنين في المغرب منذ نشأتها إلى يوم الناس هذا على العلم؛ لأن به تتحقق المصالح الدينية والدنيوية، وقد قال الحضرمي: “إن الأحياء الناطقين والحكماء المتقدمين فرقوا بين الجماد والحيوان بالحياة، وفرقوا بين البهيمة والإنسان بالعقل، وفرقوا بين الشريف والخسيس بالعلم”[10]. وقال أيضا بعد كلام: “… واعلم أن الملوك العلماء بقيت بالعلم أذكارهم، وأن الملوك الجهال، ماتت معهم أخبارهم.” [11]
فالعلم أساس العمران والحضارة، فلولاه ما وجدت هذه المآثر الكثيرة الشهيرة التي كلت أقلام المؤرخين عن تدوينها، ففي كل مدينة مغربية آثار عديدة، وفي كل حدث مواقف قوية سديدة، وغير ذلك مما لا يعد ولا يحصى، وكل هذا لم يكن ليحدث ويتحقق لولا العلم الذي صانه سلاطين المغرب فصانهم بعد مماتهم، وحفظ أخبارهم وخلد في الصالحات ذكرهم، وأعلى شأنهم بين ملوك الأرض في حياتهم.
فملوك الدولة العلوية الشريفة على اختلافهم وتعددهم كانوا على أعلى درجة من العلم والمعرفة، والأخذ بأوفى الأنصبة من الأدب، ومن أعظم المطلعين على أحداث التاريخ، وعلى علم كبير بمقاصد الشريعة الإسلامية، وعلم بنصوصها من كتاب الله وسنة رسوله، صلى الله عليه وسلم، وإجماع أهل الحل والعقد من الأئمة، ولهم نصيب من العلوم العقلية والأصولية، وهنا يكفي أن أشير إلى ما كان عليه المولى محمد بن عبد الله، والمولى سليمان، والمولى إسماعيل، والسلطان مولاي محمد الخامس، طيب الله ثراهم، من العلم والأدب.
والجميع يعلم ويشهد بما كان عليه المغفور له جلالة الملك الحسن الثاني، رحمه الله ورضي عنه، وعن أبيه وأجداده، ومن بعده وارث سره مولانا محمد السادس، حفظه الله ونصره، من العلم والمعرفة واتساع الأفق الثقافي والمعرفة الواسعة، بفنون السياسة ودروبها ووسائلها وأنماط وطرق الحوار السياسي، وغير ذلك مما هو من مقومات الشخصية المثالية التي بفضل ما تمتلكه من علم ومعرفة وثقافة واسعة، تستطيع أن تقدر الأمور حق قدرها، وتتخذ القرار المناسب بعد تقليب الأمور والبحث في مختلف الأسباب والحيثيات، والموازنة التامة بين أوجه المصالح والقواعد المتوخاة، وأوجه المفاسد والأضرار التي قد تنتج عن هذا القرار أو ذاك؛ “بفضل اعتماده من الولاة على كفاته، ومن جباته على ثقاته، ومن قضاته على هداته، ومن وزرائه على ما يقترن الصواب بآرائه”[12]، وكل هؤلاء وغيرهم من أبناء المملكة الشريفة مأمور بمقتضى النطق الملكي السامي في خطاب العرش للسنة الماضية 2023م “بالجدية والتفاني في العمل … والجدية كمنهج متكامل تقتضي ربط ممارسة المسؤولية بالمحاسبة، وإشاعة قيم الحكامة والعمل والاستحقاق وتكافؤ الفرص”.
ولا شك أن إدارة البلاد وحكمها على علم ومعرفة لهو منة عظيمة، لما تدل عليه من حكمة وتبصر وبعد نظر، ولما تحققه من مكاسب وفوائد على البلاد والعباد، إن على المستوى الدولي أو على المستوى الداخلي، وإن على المستوى الاقتصادي والاجتماعي.
وإن إمارة بلاد هذا وصفها، لهي هبة من الله تعالى لا تقدر بثمن؛ لأنها ستقود يقينا البلاد إلى كل خير ورشاد، وتجنبه قطعا كل شر وخطر.
ونظرا لهذه الخصلة التي يتمتع بها ملوكـنا وأمراؤنا الكرام، نجدهم يكرمون العلماء ويغشون مجالسهم ويقربونهم، ويشجعون على العلم ويكرمون طلبته ويقيمون مؤسساته.
وحسبنا هنا أن نمثل لهذا الاحتفاء بالعلم وأهله من سنة إقامة الدروس الحسنية التي هي سنة قديمة عرفت أوجها في عهد مولانا الحسن الثاني طيب الله ثراه، وارتقت ذروة سنامها في عهد وارث سره أمير المومنين صاحب الجلالة الملك محمد السادس، حفظه الله ونصره.
ومن مظاهر هذا الاحتفاء بالعلم كذلك، العناية بالعلماء وتشجيعهم بالجوائز الاستحقاقية والتكريمية والتشجيعية، والمكرمات والصلات المولوية.
إن إمارة المؤمنين بالمغرب إمارة عريقة، تضرب بجذورها في أعماق التاريخ ولمئات السنين.
ولهذا فإنها تحظى على المستوى الدولي بالهيبة والوقار والاحترام، بسبب هذا الزخم الكبير من الريادة والقيادة والوجاهة والأصالة، وهو ما يجعلها مثالا لأي نظام قيادي ناجح لا يضاهيها أي نظام آخر.
وقد سجل تاريخنا المجيد أمثلة مشرقة عن التدخل الفاعل، والتأثير البين لإمارة المؤمنين على الأحداث العالمية، والقضايا العربية العادلة، وفي مقدمتها قضية فلسطين والقدس الشريف، وتسجيل مواقف مشرفة ستبقى أبد الدهر بمثابة غرة منيرة في محطات من تاريخنا القديم والحديث.
مما يسمح لنا بحق أن نستنتج أن إمارة المؤمنين بالمملكة المغربية الشريفة، تشرف بهذه العراقة والوجاهة والهيبة على دولة قيم مؤطرة بثوابتها العريقة، ويشهد تاريخها الزاهر برسوخ قدمها في التمثل بالقيم العليا التي تنطوي عليها هذه الثوابت، وليس بخاف في هذا النطاق أن الأمريكيين تمكنوا من معرفة قيم الحكم والسلطنة في المملكة المغربية الشريفة، المنبثقة من الشريعة الإسلامية قبل غيرها من ممالك الإسلام والعالم العربي، عن طريق اعتراف المملكة المغربية الشريفة بها وبالمعاهدات التي عقدتها معها سنة: (1776م).[13]
ولعل هذا النمط من التعامل الراقي المبني على الجدية والوفاء والتعاون، دون خلفيات أو عوائق ترجع إلى الاختلاف في الدين والعادات وسائر الخصوصيات، هي التي دفعت الولايات المتحدة الأمريكية إلى أن تطلب من السلطان المغربي محمد الثالث، أن يستخدم مساعيه الحميدة من أجل عقد معاهدات صداقة وتعاون بين الولايات المتحدة الأمريكية، وحكام بعض دول الجوار، وقد نجحت تلك المساعي وأسفرت عن عقد معاهدات بين الولايات المتحدة وبين تلك الأقطار اعتبارا من سنة 1795م وما بعدها. [14]
وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن الحكمة ضالة إمارتنا والأعراف صناعتنا والتاريخ طوع يدنا، فنحن المغاربة بهذا الزخم التاريخي الذي صنعه ولاة أمرنا، أولى من أي كان بإعطاء الدروس وإعطاء القدوة لكل مشكك أو معاند.
أولئك آبائي فجئني بمثلهم * إذا جمعتنا ياجرير المجامع
إن إمارة المؤمنين بالمغرب هي إمارة مسنودة بالتاريخ وبالنسب الشريف وبالعلم والمعرفة وبالوحدة الوطنية وبالالتحام بالقاعدة الشعبية، وبالشرعية التاريخية والدستورية وبالشرعية الدينية وبالدعم التام، والتعلق الدائم لكافة أفراد الأمة المغربية بأهداب العرش العلوي المجيد، وبالتجند التام وراء أمير المؤمنين نصره الله وأيده.
وهي مسندة، لأنها تستند إلى حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: «الأئمة من قريش»[15] فالإمامة العظمى وإمارة المؤمنين هي حق أعطاه رسولنا الكريم لمستحقه، ومنه لمن يأتي بعده، وهكذا إلى أن يصل إلى مستحقه الحالي، ومنه إلى مستحقه الذي يأتي من بعده في كل عصر ووقت وأوان وإلى قيام الساعة.
فالإمامة العظمى في المغرب بهذا الوصف، تبدو كأنها مأخوذة بالسند المعروف عند المحدثين، فنقول: مولانا أمير المؤمنين محمد السادس أخذ الإمامة وإمارة المؤمنين عن أبيه عن جده عن أبي جده مولانا يوسف، وهكذا إلى أن نصل إلى معطيها الأول وهو مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فيتحقق بهذا السند المتصل أنواع من العناية والتسديد والتوفيق والبركة العائدة على البلاد والعباد، ويكفي أن يكون من فضيلة هذا السند، أن الله تعالى قد أقام به دولة الإسلام بالمغرب الأقصى، وجمع بها أمر المسلمين، وما اجتمع المسلمون على إمام يسوسهم إلا وكان الله معهم يؤيدهم ويسددهم، ويثبت أمرهم، وقد قال الله تعالى: ﴿اِنَّ اَ۬لذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اَ۬للَّهَ يَدُ اُ۬للَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْۖ﴾[16]، وقال صلى الله عليه وسلم: «يد الله مع الجماعة».[17] ومن كانت يد الله معه فقد أفلح وظفر، وحاز على الكمال في كل شيء، لأن الله تعالى كامل وعطاءه شامل.
ويترتب على ما سبق من شرف إمارة المؤمنين واستنادها إلى الأمة، وإسنادها إلى معطيها الأول، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم إعطاء شرعيا، أن إمارة المؤمنين قائمة على سياسة الدين والدنيا، فسياسة الدين ما أدى إلى قضاء الفرض، وسياسة الدنيا ما أدى إلى عمارة الأرض، وكلاهما يرجعان إلى العدل الذي به سلامة السلطان وعمارة البلدان؛ لأن من ترك الفرض ظلم نفسه، ومن خرب الأرض ظلم غيره.[18]
ولا شك أن اجتماع هذه الخصائص والمميزات في إمارة المؤمنين بالمغرب هي التي أعطتها قوة ومنعة وهيبة، وجعلتها تصمد أمام التحديات والهزات التي مرت بها عبر التاريخ، وكمثال على هذا، صمود إمارة المؤمنين في وجه الاستعمار الغاشم الذي أراد أن يقتلع البلاد من جذورها ويعزلها عن أصولها ويجتثها من محيطها، هذا من جهة، ومن جهة أخرى أراد الاستعمار أن يعزل مؤسسة إمارة المؤمنين عن قاعدتها الشعبية، وعن سائر الهيئات الوطنية من علماء وتجار وحرفيين وفلاحين ووجهاء وغيرهم.
ورغم كل المحاولات والإغراءات من جهة، أو الضغط والقتل والسجن والتعذيب من جهة أخرى، إلا أن كل محاولاته باءت بالفشل.
وهنا لا بد أن نشير إلى صورتين دالتين من صور التدخل الاستعماري الاجتثاثي الذي مارسه ضد الوحدة التي تجمع بين إمارة المؤمنين والقاعدة الشعبية بكل فئاتها وأطيافها:
وقد ظل الجميع على وفائه لملكه ولولي أمره دون كلل ولا ملل.
وهنا أنقل شهادة حية لأحد الشخصيات الاستعمارية التي قادت الحملة الاستعمارية في المغرب ويتعلق الأمر بشهادة المارشال ليوطي نقلها (المسيو لويس بارتو) في كتابه: “ليوطي والمغرب” حيث قال: “إننا إزاء إمبراطورية تاريخية مستقلة غيورة على استقلالها أشد غيرة، نافرة من أي لون من ألوان العبودية، كانت إلى السنوات الأخيرة دولة كاملة التكوين، متمتعة بأنظمتها الإدارية والاجتماعية وتمثيلها الخارجي…” ثم زاد قائلا: “كان للإمبراطورية الشريفة إذن هيئة سياسية منظمة وهيئة أخرى دينية ذات أهمية ونفوذ، كما أن لها نواة اقتصادية من الدرجة الأولى مكونة من كبار التجار… “[21].
فهذه شهادة واضحة تدل على سر قوة إمارة المؤمنين بواسطة أذرعها السياسية وأذرعها الدينية ذات نفوذ وتأثير، وهذا ما أكسبها قوة ومنعة وجعلها عصية على الأطماع الخارجية ممثلة في الاستعمارين الفرنسي والإسباني، وحافظت بها على وجودها وكيانها، فذهب الاستعمار وبقيت إمارة المؤمنين أقوى مما كانت.
ومن أثر إمارة المؤمنين في الحكم، إشاعة الأمن والذود عن حرمات الناس وحماية الأعراض وعدم التفرقة بين أفراد الرعية على أساس لون أو جنس أو دين.
وهنا أستحضر حكاية وواقعة لطيفة وفريدة في تاريخنا المغربي فيما يرتبط بهذه الحالة أو الواقعة، وهي أنه لما وقعت فرنسا في قبضة النازية أثناء الحرب العالمية الثانية، طلب رئيسها تحت ضغط برلين من الملك محمد الخامس، رحمه الله، تطبيق القوانين النازية على اليهود، فأبى وقال له: “إن اليهود في ذمتنا وشرع الإسلام لا يوافق على تلك القوانين الجائرة”[22].
إذن فالمسألة، مسألة القانون الإسلامي الذي يحكم العلاقة بين أمير المؤمنين ورعيته، وقد قال في هذا الصدد الشيخ عبد الله كنون رحمه الله: “إن تاريخ العالم لم يعرف دولة استظل بظلها جميع أهل الملل والنحل والمنتسبين لمختلف الأجناس والألوان، فشملتهم برعايتها وسوت بينهم في المعاملة وبين رعاياها الأصليين كدولة الإسلام، وكثيرا ما كانت الدول العنصرية والمتعصبة تطرد من بلادها أتباع الأديان المخالفة لها كاليهود وغيرهم، فلا يجدون مأوى لهم يحميهم ويمنع عنهم الضيم إلا في بلاد الإسلام، والتاريخ أعظم شاهد والواقع المحسوس أكبر دليل.”[23] والدولة المغربية الشريفة، المتشبعة بالروح الإسلامية كانت ولا تزال مثالا متفردا في ذلك، ومقصدا للقاصدين من أفريقيا جنوب الصحراء ومن غيرها، ليستظلوا بالطمأنينة والأمن والسلام، والعيش الكريم.
فمما سبق تتضح لنا العلاقة القائمة بين إمارة المؤمنين وثوابت الأمة، وهي أن إمارة المؤمنين هي المبدأ الفاعل الذي إليه يرجع حفظ كل الثوابت والقيام عليها وصيانتها، وحفظ مقامها، وأنه لا يمكن لأحد مهما كان شأنه أن يزاحمه في شأنها، أو يتصرف من دونه فيها، فحفظ أمر العقيدة بيده وفق اختيارات الإمام الأشعري، وأمر إقامة الشرائع موكول إلى سديد نظره، وفق مذهب الإمام مالك، والتصوف السني اختيار للأمة المغربية بدءا من المولى إدريس إلى يوم الناس هذا، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وأمير المؤمنين يتأدب بآدابه ويحفظ رسومه وقواعده. وأن العلماء وأئمة المساجد وسائر القيمين الدينيين هم نواب عن الإمام الأعظم، في القيام بهذه الثوابت وفق التوجه الشرعي المرعي في المملكة الشريفة.
ومن نافلة القول هنا أن نشير إلى أنه ليس من باب العبث أن نجد الإمامة العظمى من صميم البحث العقدي والكلامي؛ مشروعية وأحكاما وتفصيلات.[24] لأن أمر قيام الدين والعقائد موكول إلى الإمام شرعا، وبدونه يتعطل كل ذلك ويختل.
من خلال ما استعرضناه سابقا من لمحات وإضاءات عن علاقة إمارة المؤمنين بثوابتها الأصيلة، وما ينتج عن هذه العلاقة من ثمرات ومصالح يتفيأ بها جميع أفراد الأمة المغربية في أمن وسلام، وأمل فسيح في حياة أفضل في ظل إمارة المؤمنين، ممثلة في مولانا أمير المؤمنين صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده، يحق لنا أن نحتفي ونحتفل بهذه الإمارة المباركة في عيد عرشها المجيد، إظهارا لنعمة الله تعالى علينا باجتماع أمرنا، ووحدة صفنا ومنعة مملكتنا السعيدة على يد ملكـنا الهمام متعه الله بالصحة والعافية وآزره بمدد من عنده، الذي يعمل بدون كلل ولا ملل على إسعاد شعبه، ساعيا في تحقيق الحياة الطيبة له، حسبة لله تعالى وقياما بما طوقه الله من أمر عباده، عاملا بمقتضى قوله تعالى: ﴿وَمَنَ اَرَادَ اَ۬لَاخِرَةَ وَسَع۪يٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُومِنٞ فَأُوْلَٰٓئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراٗۖ﴾[25].
وإن أفضل مقام قد يناله المؤمن هو مقام السعي؛ باعتباره العمل المخصوص الذي يعتني به ويهتم له ويجتهد في تحصيله، وأدائه، فهو بهذا المعنى يتحقق بعدة وسائل بحسب ما يفتقر إليه هذا السعي من مجهود، فإن افتقر إلى أن يعدو إليه العامل ببدنه عدا، وإن افتقر إلى أن يجمع له أعوانه ومساعديه جمع، وإن افتقر إلى أن يتفرغ له وينقطع لأدائه انقطع.[26] وإن أمير المؤمنين مولانا محمدا السادس نصره الله يسعى في خدمة شعبه ويعدو إليه في كل اتجاه وفي كل ناحية، ثم إنه متفرغ لرعاية مصالح شعبه ومنقطع لخدمته، وبهذا حق له أن ينال بفضل الله ومعونته “مقام البينية” بين الله تعالى وبين عباده، وهو والله لشرف عظيم، ومقام رفيع لم ينله من عباد الله تعالى، إلا الأنبياء وأولو الأمر والعدل والعلماء.
فالأنبياء يسعون بين الله وبين عباده بالرسالات، وصحيح الديانات، وأمهات الشرائع، وأولو الأمر يسعون بين الله وبين الخلق بالحكم بين عباد الله بالعدل، ويسعون في تحصيل مصالحهم ومصالح الدين بالاحتساب، وإقامة أمر الدنيا وسياستها وحراسة الدين.
والعلماء الذين هم نواب أمير المؤمنين يسعون بين الله وبين العباد بتعليم الناس أمر دينهم وما ينفعهم من صنوف العلوم والمعارف، والإجابة عن أقضية الناس ونوازلهم.
لهذا وجبت لهم الطاعة ووجب رد الأمر إليهم عند التنازع، قال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَطِيعُواْ اُ۬للَّهَ وَأَطِيعُواْ اُ۬لرَّسُولَ وَأُوْلِے اِ۬لَامْرِ مِنكُمْۖ فَإِن تَنَٰزَعْتُمْ فِے شَےْءٖ فَرُدُّوهُ إِلَي اَ۬للَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُومِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ اِ۬لَاخِرِۖ ذَٰلِكَ خَيْرٞ وَأَحْسَنُ تَاوِيلاً﴾.[27]
لهذا فإن عيد العرش المجيد هو مناسبة للتعبير عن الفرح والسرور بما أولانا الله تعالى من فضله واختصنا بإنعامه، واستحضار ما يتعلق ببلادنا من الخصائص والذكريات والمفاخر والإنجازات، وما يعزم عليه أمير المؤمنين من سديد التوجيهات والسياسات.
وتتجلى دلالات عيد العرش بالمغرب فلسفته في ما يأتي:
إن عيد العرش المجيد يجسد الإيمان الراسخ بالله تعالى من خلال التشبث بالثوابت الدينية والوطنية التي يقوم عليها النظام السياسي والاجتماعي بالمملكة السعيدة، وهو مناسبة للتذكير بها، وتلقينها للأجيال الصاعدة، وإن الخطب الملكية بهذه المناسبة تحمل كثيرا من الدلالات التي تخدم هذه الثوابت، وتلح على صيانتها، والمحافظة عليها، بما يؤكد ويدعم مقومات الهوية المغربية.
ومن هذا الإيمان، نبع اليقين في الماضي بأن الاستعمار الغاشم لا محالة زاهق، وأن المغرب سيعود إلى أهله وأن المملكة سترجع إلى ملكها الشرعي، وهذا الإيمان هو الذي دفعنا بالأمس في ميدان المقاومة لإثبات وجودنا وانتزاع حريتنا واستقلالنا، وسوف يدفعنا غدا لإثبات قوتنا وتعزيز قيمنا الخلقية.
وإذا كـنا قد استطعنا أن نكسب المعركة الأولى ونطيح بسلطان الاستعمار وأعوانه، فإن الفضل في ذلك يعود لعقيدة هذا الشعب الراسخة، ولإيمان قائده الأكبر مولانا محمد الخامس بمعية وارث سره مولانا الحسن الثاني، طيب الله ثراهما، الذي لا يتزعزع، وثقته في عدالة القضية التي كان يدافع عنها، وضحى في سبيلها بعرشه، وقد نصره الله في النهاية بفضل ثباته على الحق وصموده في وجه الباطل[28]، وتحقق لنا وعد الله تعالى إذ يقول: ﴿يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن تَنصُرُواْ اُ۬للَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتَ اَقْدَامَكُمْۖ﴾[29].
ويوم أن عادت للشعب كرامته وللوطن سيادته، وعاد إلى العرش بطل المقاومة ظافرا منصورا واستعادت الدولة المغربية وجودها السياسي ومكانتها الدولية بفضل حكمة الخلف الصالح لمولانا محمد الخامس مولانا الحسن الثاني، ووارث سره صاحب الجلالة الملك محمد السادس حفظه الله، إذ بين المحمدين تحققت المعجزة المغربية وتحقق المستحيل وأصبحت المملكة الشريفة اليوم تنعم باستقلالها، وتطورها الدائم، وقوتها المؤثرة في محيطها الإقليمي والجهوي والدولي، وعلاقتها المتميزة القائمة على التعاون والتفاهم مع غالبية الدول ومن كل القارات.
وعيد العرش كذلك مناسبة مهمة توجه من خلالها رسائل واضحة إلى العالم مفادها أن المملكة المغربية الشريفة دولة ذات تاريخ وحضارة، وسيادة ومتميزة في عاداتها وأعرافها، وصانعة للأمن والسلم، ومساهمة في قيام البشرية والعالم على مبادئ العدالة والإنصاف واحترام الآخر، والجنوح نحو السلم، والانفتاح على كافة الثقافات والديانات والحوار المتبادل الهادف إلى تعزيز الأمن والسلم والرخاء والتعاون بين كافة أقطار الأرض، على أساس صيانة المصالح المتبادلة.
إن عيد العرش المجيد هو فرصة سانحة متجددة كل عام للتعريف بالخصوصية المغربية المتميزة والقائمة على وحدة الدين والمذهب والعقيدة والسلوك، وباللحمة الاجتماعية، وبالعادات والتقاليد، وغير ذلك مما هو من صميم ما يميز المملكة المغربية الشريفة أمة وقيادة.
إن فكرة عيد العرش في أصلها هي فكرة نابعة من الأوساط الشعبية المغربية، وليست فكرة دولة أو حكومة أو جهة رسمية، وهذا منتهى الخصوصية المغربية، وهي ميزة لا أعلم أن أمة من الأمم سبقت إليها، كما لا أعلم أن نظاما ما، تلقف هذه الفكرة بالترحاب والقبول، كما فعل النظام المغربي، وهذا منتهى الالتحام بين القمة والقاعدة، والوفاء للقيم الوطنية من الجانبين، في إطار “التجاوب التلقائي، بين العرش والشعب.” بحسب النطق السامي لمولانا أمير المؤمنين نصره الله وأيده في خطاب العرش لسنة 2023م.
ثم إن عيد العرش المجيد يمثل على الصعيد الوطني مناسبة للتسامح والرأفة والعطف على كثير ممن أخل بالنظام العام أو ارتكب ما يقوض الأمن العام بالتعرض للناس ولأملاكهم، أو غير ذلك مما يستوجب العقاب، خصوصا إذا بدا من الجاني أو المخطئ ما يدل على صلاح حاله أو إظهار ندمه على ما فرط منه، أو صدر عنه في لحظة طيش أو رعونة غير محسوبة.
فقد اعتاد المغاربة في كل ذكرى من ذكريات عيد العرش المجيد، ومنذ سنوات طويلة، على ترقب تفضل أمير المؤمنين بإصدار عفوه على أفراد من أبناء شعبه المحكوم عليهم من مختلف محاكم المملكة، وحق له أن يعفو، لأن العفو صفة سلطانية، يوصف بها السلطان العادل، وعن علي رضي الله عنه: “عفو الملوك أبقى للملك”[30] وقال صلى لله عليه وسلم: “إن العفو لا يزيد العبد إلا عزا فاعفوا يعزكم الله”[31]، فعفو أمير المؤمنين نصره الله وأيده هو اتباع لسنة جده المصطفى صلى الله عليه وسلم، وسير على نهج أسلافه المنعمين رضي الله عنهم، وينطبق على صنيعه الجميل هذا، قول الشاعر الحسن بن رجاء:[32]
صفوح عن الإجرام حتى كأنه * من العفو لم يعرف من الناس مجرمـا
وليس يبالي أن يكون به الأذى * إذا ما الأذى لم يغش بالكره مسلمـا
فيه تتجدد البيعة الشرعية للملك، وفيه يترقب المواطنون الخطاب الملكي، يعقبه احتفال وبهجة تعم سائر أرجاء الوطن، فهذا العيد في المغرب هو فريد في نوعه على مستوى العالم؛ لأن فكرته نبعت من إرادة الشعب، ومن أوساط الحركة الوطنية،[33] فهو بهذا عيد بأبعاد تاريخية، ويرمز إلى أمجاد المغاربة ونضالهم ومقاومتهم من أجل التحرر، ثم أصبح هذا العيد رمزا يتفاءل به المغاربة بجميع الرغبات والغايات التي تصبح فيه قابلة للتحقق بيد مولانا أمير المؤمنين دام له النصر والتمكين، الذي هو خير من يجسد الوجود والاستمرار للدولة المغربية، ويشخص السيادة الوطنية، والجهاز المحكم المنتسب إليها، ويرمز إلى وحدة الوطن، فكل هذه المعاني ينبغي أن تتمثل في عيد العرش كعيد وطني رسمي لجميع المغاربة الذين تتاح لهم الفرصة سنويا للتعبير عن الوحدة القومية واستمرار الكيان الوطني.
كما أن عيد العرش المجيد فرصة مناسبة لتعزيز سياسة الاعتدال والتعاون، التي تشكل مبدأ من المبادئ التي وقع عليها إجماع الأمة، منذ القديم، وهو سر من أسرار وحدتها واستقرارها، وضامن استمرارها بفضل إمارة المؤمنين وسهرها الدائم على المضي قدما إلى تحقيق التطلعات وتحقيق الأهداف التنموية في البلاد.
وفي هذا المعنى قال عمر بن عبد الجليل في أحد مقالاته مخاطبا بعض الجهات، بالعدول عن بعض مواقفها وأفكارها زمن الحماية، ونصه: “… ونقول لهم: اعلموا أن المغرب لا ينهض من كبوته إلا بالمحافظة على النظام، فلتتركوا عنكم ما كان علق بأذهانكم في الماضي من أفكار ثورية، ولتلتفوا حول ملككم المحبوب وعرشه المجيد، ففيهما ضمان حريتنا ووحدة بلادنا…”[34]
وبالإضافة إلى ما سبق فإن هذا العيد السعيد:
والمغاربة معروفون، والحمد لله، بخصال الصدق والتفاؤل، وبالتسامح والانفتاح، والاعتزاز بتقاليدهم العريقة، وبالهوية الوطنية الموحدة.
واليوم، وقد وصل مسارنا التنموي إلى درجة من التقدم والنضج، فإننا في حاجة إلى هذه الجدية، للارتقاء به إلى مرحلة جديدة، وفتح آفاق أوسع من الإصلاحات والمشاريع الكبرى، التي يستحقها المغاربة.”
فهذه هي أهمية ودلالات عيد العرش؛ عيد التحديات، واليقظة العامة ضد المؤامرات الصادرة عن كيانات وجهات معادية بسبب غيظها وعدم رضاها على ما يحققه المغرب من خطوات كبيرة على كافة الأصعدة؛ سياسيا، واقتصاديا، واجتماعيا، وأمنيا، وغير ذلك. وستبقى كل هذه المحاولات والمناورات تصطدم بأسوارنا المنيعة التي بناها جلالة الملك حفظه الله مع شعبه، أساسها الوحدة والإيمان، وذروتها التعلق بأهداب العرش العلوي المجيد، ضامن الاستقرار والماسك الأمين لمفاتيح المستقبل المشرق.
[1] – يذكر المؤرخون بكثير من الإعجاب والتقدير تميز المغاربة في كثير من أبواب المعرفة ومساهمتهم في الحضارة الإنسانية، وعلى الخصوص، تميزهم: بالتمكن من العلوم الشرعية، والتألق في العلوم العربية، والمهارة في النقش، والشهرة في التجارة… انظر في هذا الصدد على سبيل المثال: السيد محمد بريم التونسي، صفوة الاعتبار بمستودع الأمصار والأقطار، المطبعة الإعلامية بمصر: 1303هـ، ج:1، ص: 61. وانظر كذلك: أحمد المكاوي، المغرب في تاريخه المنسي: جوانب من تاريخ المغرب الحديث بعيون عربية، جذور للنشر، الطبعة الأولى: 2006م، ص: 21.
[2] – سورة الفتح، آية: 10.
[3] – د: عبد الهادي التازي، العلاقات الدولية للمغرب على عهد الحسن الأول، الذكرى المئوية لزيارة السلطان مولاي الحسن لمدينة طنجة، ندوة نظمتها جمعية تنمية طنجة والمحافظة على مآثرها، بالاشتراك مع مجموعة “ماروك سوار” و “الصحراء”، يومي 29 و30 يونيو 1990م. الشركة المغربية للنشر “ولادة” الدار البيضاء، المغرب. مطبعة فضالة – المحمدية، 1991م، ص: 49.
[4]– سورة المائدة، آية رقم: 6.
[5]– اقتباس من قوله تعالى: ﴿اِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اُ۬للَّهُ إِذَ اَخْرَجَهُ اُ۬لذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اَ۪ثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِے اِ۬لْغ۪ارِ إِذْ يَقُولُ لِصَٰحِبِهِۦ لَا تَحْزَنِ اِنَّ اَ۬للَّهَ مَعَنَاۖ﴾الآية: 40 من سورة التوبة.
[6]– وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية السيد أحمد التوفيق، عرض مقدم أمام لجنة الخارجية والدفاع الوطني والشؤون الإسلامية والمغاربة المقيمين بالخارج بمجلس النواب، حول مشروع الميزانية الفرعية لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية للسنة المالية 2024م، ص: 7.
[7] – أحمد المكاوي، مرجع سابق، ص: 19.
[8] – السيد محمد بريم التونسي، مرجع سابق، ج:1، ص: 61.
[9] – انظر: العلامة المؤرخ أحمد بن خالد الناصري السلاوي، زهر الأفنان من حديقة ابن الونان، المركز الثقافي للكتاب، ط:1، سنة: 2020م، ج2، ص: 412.
[10] – أبو بكر محمد بن الحسن المرادي الحضرمي، كتاب السياسة، أو الإشارة في تدبير الإمارة، تحقيق الدكتور سامي النشار، دار الثقافة -الدار البيضاء، الطبعة الأولى: 1401هـ 1981م، ص: 57.
[11] – أبو بكر محمد بن الحسن المرادي الحضرمي، مرجع سابق، ص: 69.
[12] – الوزير جمال الدين علي بن يوسف القفطي، أساس السياسة، تحقيق جليل العطية، دار الطليعة، بيروت، ط:1، سنة: 1429هـ 2008م، ص:61.
[13] – أ. د: جمال زكرياء قاسم، الجاليات العربية في المهجر الأمريكي، الكتاب: 17 حول التاريخ الحديث والمعاصر من موسوعة الثقافة التاريخية والأثرية والحضارية، طبع دار الفكر العربي، سنة: 2006م، ص: 5.
[14] – أ. د: جمال زكرياء قاسم، مرجع سابق، ص: 5 – 6.
[15] – الحديث رواه الإمام البخاري في صحيحه، في باب: مناقب قريش، ح: 3500 بلفظ: “إن هذا الأمر في قريشٍ، لا يُعاديهم أحدٌ إلا كبَّه الله على وجهه، ما أقاموا الدين”.
[16] – سورة الفتح، آية: 10.
[17] – الحديث رواه ابن عمر، وأخرجه الترمذي (ح: 2167) والحاكم (ح:397) وغيرهما.
[18] – ابن الحداد، محمد بن منصور بن حبيش، الجوهر النفيس في سياسة الرئيس، تحقيق روان السيد، دار الطليعة، بيروت، ط:1، 1983م، ص:62.
[19] – محمد حسن الوزاني، حياة وجهاد: (التاريخ السياسي للحركة الوطنية التحريرية المغربية)، ج:1، طور المخاض والنشوء، ص: 154.
[20] – محمد حسن الوزاني، مرجع سابق، ج: 1، ص: 154.
[21] – المرجع نفسه، ج:1، ص: 215.
[22] – الشيخ عبد الله كنون، منطلقات إسلامية، مطبعة سوريا بطنجة، د. ت، ص: 176 و177.
[23] – المرجع نفسه، ص: 176 و177.
[24] – انظر على سبيل المثال، الشيخ عثمان السلالجي الفاسي، العقدية البرهانية، ونظمها لعبد الله الهبطي الغماري الطنجي، تقديم وتحقيق جمال علال البختي، دار الأمان للنشر والتوزيع، ط: 1، 1442هـ/ 2020م، ص:162-163.
[25] – سورة الإسراء، آية: 19.
[26] – ابن قيم الجوزية، شمس الدين محمد بن أبي بكر، التبيان في أقسام القرآن، صححه وعلق هوامشه: محمد حامد الفقي، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت (د – ت) ص: 6 – 7.
[27] – سورة النساء، آية: 58.
[28] – إدريس الكتاني، المغرب المسلم ضد اللادينية، مطبعة الجامعة، الدار البيضاء، المغرب، محرم عام: 1379هـ/ 1958م، ص:43.
[29] – سورة محمد، آية: 8.
[30] – المناوي، فيض القدير، بيروت، 1972م، ج:4، ص:318.
[31] – رواه إمامنا مالك في الموطأ، تحقيق فؤاد عبد الباقي، ح: 1000.
[32] – انظر ذلك في الفرج بعد الشدة، للتنوخي، تحقيق عبود الشالجي، دار صادر بيروت 1978م، ج:1، ص: 387.
[33] – تضمن العدد:77 – 78 المزدوج من المجلة الفصلية المناهل التي تصدرها وزارة الثقافة المغربية مضمونا خاصا بمولانا محمد الخامس طيب الله ثراه، وتاريخ المغرب المعاصر، وقد ورد في هذا العدد مقالان: أحدهما: تحت عنوان: “فكرة الاحتفال بعيد العرش في الأدب المغربي –دراسة نقدية– لعادل بنمنصور، من الصفحة: 259 -300. والآخر لمحمد حسن الوزاني، بعنوان: عيد العرش والحركة الوطنية، من: ص: 471-477 وفيهما تفصيلات تاريخية ومعلومات أخرى متعلقة بمبررات الاحتفال بعيد العرش المجيد.
[34] – محمد حسن الوزاني، حياة وجهاد: (التاريخ السياسي للحركة الوطنية التحريرية المغربية) ج: 6 -ظهور الأحزاب والمطالبة بالاستقلال: 1937 – 1946م. مؤسسة محمد حسن الوزاني، 1986م، ص: 105.