الإمامة العظمى؛ المفهوم والمكانة



الإمامة العظمى؛ المفهوم والمكانة

ذ. سعيد بيهـي

رئيس المجلس العلمي المحلي للحي الحسني بالدار البيضاء

 

إن مما تقتضيه طبيعة وجود الإنسان بما هو مدني بطبعه ضرورة الاجتماع في جماعة، اجتماعٍ ينتظم في سياقٍ مُتَحَضِّرٍ يُناسِب إنسانيته؛ حتى لا يؤول عيشه المشترك إلى فوضى عارمة تنشأ عن انجراره وراء نزعة التَّدافع والتَّغالُب بسبب استحكام الأهواء والشهوات، وتغليبها على التَّراتيب المُنَظِّمات، ومِن هنا احتاجت الجماعات إلى قواعد حاكمة تنظم شؤونها؛ بحيث تحقق بواسطتها حالة من استقرار أوضاع الناس على وفق المصالح الأساسية للأمة في أفق بلوغ أهدافها المرجوة؛ يقول العلامة ابن خلدون عما يستلزمه الاجتماع: «ثم إن هذا الاجتماع إذا حصل للبشر…، وتَمَّ عُمْرانُ العالمِ بِهم؛ فلابد مِن وازعٍ يدفع بعضهم عن بعض، لما في طباعهم الحيوانية من العدوان والظلم، وليست آلةُ السِّلاحِ التي جُعِلت دافعةً لعدوانِ الحيوانات العُجْم عنهم كافيَةً في دفع العدوان عنهم؛ لأنها موجودةٌ لجميعهم، فلابد من شيء آخرَ يَدفع عدوانَ بعضِهم عن بعض، ولا يكون ذلك مِن غيرهم؛ لقصورِ جميع الحيوانات عن مداركهم وإلهاماتهم، فيكون ذلك الوَازِعُ واحِداً منهم يكون له عليهم الغلبةُ والسلطانُ واليَدُ القاهِرَة، حتى لا يَصِلَ أَحَدٌ إلى غيره بعدوان، وهذا هو معنى الـمُلْك، وقد تَبَيَّن لك بهذا أنه خاصَّةٌ للإنسان طبيعية، ولابد لهم منها»[1].

إن هذا المعنى هو الذي بنى الشارعُ اجتماعَ النّاسِ على مراعاته، وذلك مِن خلال الانتقال بهم مما ألفوه في الجاهلية من عدم الانصياعِ لما يتصورونه رِبْقَةَ نِظام، أو الخضوع لما يرونه قَيْدَ حُكْمٍ؛ إلى قبول مُتَطَلَّبات الاجتماعِ المتمثلةِ في تَلَقِّي الشَّرائع النَّاظِمَة للجماعة من خلال منصب (الإمامة) بكمال الانْصِياع، انصياعٍ تحول إلى صُورة من صُوَر التعبّد التي يتقرب بها المسلمون إلى ربهم، وليُتَأَمَّل قول الحبيب المصطفى ﷺ: «مَن خَرجَ مِن الطَّاعةِ، وفارَقَ الجماعَةَ، ثُمَّ ماتَ؛ ماتَ مِيتَـةً جاهِلِيَّـةً»[2].

فما معنى (الإمامة) التي تتقوم بها الجماعة؟

  • مفهوم الإمامة

إن المقام لا يسمح باستيفاء تعريفات مختلف علماء المسلمين، ولذا سأكتفي ببعضها المحقق للمقصود؛ فهذا العلامة الماوردي عرفها بقوله: «الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين، وسياسة الدنيا به»[3]، وقال فيها إمام الحرمين الجويني: «الإمامة رياسة تامة، وزعامة عامة؛ تتعلق بالخاصة والعامة في مهمات الدين والدنيا»[4]، وقال فيها العلامة ابن خلدون في مقدمته: «هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها؛ إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة؛ فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به»[5].

وهي تعريفات متقاربة المعاني تُلاحظ النيابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرياسة المقتضية لسياسة الأمة في أمرين اثنين هما: الرياسة المقتضية لسياسة الدين إقامة لما من شأنه أن يحقق انتظام الملة، والرياسة المقتضية لسياسة الدنيا اضطلاعا بما من شأنه أن يحقق انتظام الدولة، يقول العلامة ابن زكري:

حقيقةُ الإمَامَةِ الرِّياسَةْ      *     في الدينِ والدُنْيَا مع السِّيَاسَةْ[6]

إنها نيابةٌ مُستفادة مِن عطف وُلاة الأمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَطِيعُواْ اُ۬للَّهَ وَأَطِيعُواْ اُ۬لرَّسُولَ وَأُوْلِے اِ۬لَامْرِ مِنكُمْۖ﴾[7]، فهي نيابة عنه فيما تَصَرَّف فيه بمقتضى كونه إماما ﷺ؛ بحيث لا يجوز أن يُستباح شرعا إلا بمراعاة ذلك الوصف تحقيقا للاتباع المطلوب شرعا، يقول العلامة القرافـي: « فلا يجوز لأحد الإقدام عليه إلا بإذن إمام الوقت الحاضر، لأنه ﷺ إنما فعله بطريق الإمامة، وما اسْتُبيح إلا بإذنه، فكان ذلك شَرْعاً مُقَرَّراً؛ لقوله تعالـى: ﴿وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَۖ﴾[8]»[9].

وإذا كانت الإمامة بهذا المعنى فما مكانتها، وما الحاجة إليها؟

  • مكانة إمارة المؤمنين والحاجة إليها

إن موقع إمارة المؤمنين ضمن مشمولات الدين مكين، ومكانها ضمن بناء أحكام الشريعة رصين، كيف لا تكون كذلك؟ وهي الوسيلة التي جعلها الشارع لحفظ الملة، والآلية المتوسل بها لتحقيق التمكين للدولة، تحقيقا حافِظاً مِن وُقوعِ الاضطرابات والفِتَنِ، وتمكينا مانِعاً مِن حُصول الخصومات والإِحَنِ.

وكيف لا تكون لها تلك المكانة؛ وهي إحدى أُسُسِ قيام ما لابد منه للناس فـي أي مدنية من الاجتماع في جماعة؟! وكيف لا تسمو إلى ذلكم المقام؛ وهي أَبْلَغُ وَسيلَةٍ مِن وسائلِ حِفْظِ ما تَتَقَوَّمُ به الجماعةُ الـمُتَمَدِّنَةُ مِن ناظِم مُكَوِّناتِـها؟!، وأَظْهَرُ آلِيَّاتِ ضَمانِ استمرارِيَّةِ قِيام الجماعَةِ الـمُتَمَدِّنَةِ ودَوامِهَا؟! إذ هي وسيلة تحقيق الأحكام الشرعية التي جَاوَزَ الشارِعُ بها الأفرادَ فَعَلَّقَها بالجماعة؛ فكما أنه لا إسلام إلا بجماعة، فلا جماعة إلا بإمامة…

ولأجل هذا تتأكد أهمية تأصيلها بما يُبَيِّنُ ما لها مِن عظيم المكانة؛ ما دامت هي الوسيلة التي ناط الشارعُ بها حِفْظَ اجْتِماعِ الناس في دنياهم العاجلة، وتَحْقيقَ مَصالـِحِهم سواء منها العاجلة والآجلة، حِفْظاً يرتفع به الحرج عن عموم المؤمنين بها، ويَـحْصُلُ به هدوء النفس للاطمئنان باستمرار ما يتوقف من أحكام الشريعة عليها.

إن مما يدل على عظيم مكانة إمارة المؤمنين أن صاحبها يتحمل عن المؤمنين ما كلفهم الله به مما لا سبيل لهم لإقامته إلا بواسطته؛ ذلك أن مِن مشمولات الدين التي يتكون مِنها: أحكامٌ لم يُوَجَّهِ الخطابُ فيها للأفراد من مثل سائر آياتِ وأحاديثِ الحدود والقصاصِ، وإعدادِ القوة وامتلاكها، وطرائقِ تَصْرِيفِها… بِمَا هي قَضايا مُشتركة بين جميع الأفراد والفئات، قد يَتَّخِذ فيها التَّعارُضُ والتَّجاذُب طبيعةً عامَّةً تُؤْذِن بِخَلْخَلَةِ المُجْتمع إن لم يَضْطَلِع بها إِمامٌ تُسَلِّم له النُّفوسُ – لانْعِقادِ إمامته – ما لا تُسَلِّم لغيره، قضايا اصطلح عليها أهل العلم بـ (الأحكام المفتقرة إلى ولاة الأمر)؛ يقول العلامة القرافي: «السبب الثاني الموجب لافتقار تَرْتيبِ الحُكْمِ على سَبَبِه إلى حُكْمِ الحاكِمِ ومُباشَرَةِ وُلاة الأُمور: كَوْنُ تَفْويضِه لِجميع الناس يُفْضي إلى الفِتَن والشَّحْناء، والقَتْل والقِتال، وفسادِ النَّفس والمال»[10]، ولا ريب أن الشريعة قامت على حسم كل مواد الفساد.

ولأجل كون (أحكام الجماعة) أحكاماً شرعية؛ فقد خاطب الله المكلفين بوصف الإيمان وهو بصدد تكليفهم بها فقال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَطِيعُواْ اُ۬للَّهَ وَأَطِيعُواْ اُ۬لرَّسُولَ وَأُوْلِے اِ۬لَامْرِ مِنكُمْۖ﴾[11]؛ فجعل طاعة ولاة الأمر من مقتضيات الإيمان، طاعةً تستدعي أن نتساءل عما يُطاعون فيه إن لم يكن من اختصاصهم الذي يُكلف العموم بلزومهم فيه؟! ومن أمثلة ذلك طاعة ولاة الأمر فيما يدخل في اختصاصهم من كل ما يحصل به انتظامٌ لشأن الجماعة، ومن أظهر تجلياته طاعتهم في أمور الأمن والخوف؛ قال الله تعالى: ﴿وَإِذَا جَآءَهُمُۥٓ أَمْرٞ مِّنَ اَ۬لَامْنِ أَوِ اِ۬لْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِۦۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَي اَ۬لرَّسُولِ وَإِلَيٰٓ أُوْلِے اِ۬لَامْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ اُ۬لذِينَ يَسْتَنۢبِطُونَهُۥ مِنْهُمْۖ وَلَوْلَا فَضْلُ اُ۬للَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُۥ لَاتَّبَعْتُمُ اُ۬لشَّيْطَٰنَ إِلَّا قَلِيلاٗۖ﴾[12].

إِنَّ أُمورَ الأَمْنِ والخَوْفِ ذاتُ أَعْراقٍ سِياسِيَّةٍ لـها تَعَلُّقٌ بِأَطْرافٍ شَتَّى؛ يَمَسُّ إِهْمالُها عِزَّةَ الأُمَّةِ ويُعَرْقِلُ رُقِيَّها، ومثلها سائِرُ قَضايَا الشَّأْنِ العامِّ -بما هي محتاجة إلى أَهْلِيَّةٍ خاصَّةٍ مُمَكِّنَةٍ مِن حُسْنِ فَهْمِها- بِجامِعِ حُصولِ الضَّرَرِ مِن اسْتِباحَةِ العامَّةِ لهما؛ قال العلامة محمد رشيد رضا: «ومَن خَبَرَ أَحْوالَ النَّاسِ يَعْلَمُ أن الإِذاعَةَ بِمِثْلِ أَحْوالِ الأَمْنِ وَالخَوْفِ لا تَكونُ مِن دَأْبِ الـمُنافِقِينَ خاصَّةً، بَلْ هي مِمَّا يَلْغَطُ بِهِ أَكْثَرُ الناس، وإنما تَخْتَلِفُ النِّيَّاتُ، فالمُنافِقُ قَدْ يُذيعُ ما يُذيعُهُ لِأَجْلِ الضَّرَرِ، وضَعِيفُ الإيمانِ قَدْ يُذِيعُ مَا يَرَى فيه الشُّبْهَةَ اسْتِشْفاءً مِمّا في صَدْرِهِ مِن الحَكَّةِ، وأمّا غَيْرُهُما مِن عامَّةِ الناسِ فَكَثيراً ما يُولَعونَ بهذه الأُمورِ لِمَحْضِ الرَّغْبَةِ في ابْتِلاءِ أَخْبارِهَا، وَكَشْفِ أَسْرارِهَا، أو لِمَا عَساهُ يَنالُهُمْ منها.

فَخَوْضُ العامَّةِ في السِّياسَةِ وأُمورِ الحَرْبِ وَالسِّلْمِ، والأَمْنِ وَالخَوْفِ؛ أَمْرٌ مُعْتادٌ، وهو ضارٌّ جِدّاً إذا شُغِلُوا به عن عَمَلِهِمْ، ويكون ضَرَرُهُ أَشَدّ إذا وَقَفُوا على أَسْرارِ ذلك وأذاعوا به، وهم لا يَسْتَطِيعونَ كِتْمانَ ما يَعْلَمون، ولا يَعْرِفونَ كُنْهَ ضَرَرِ ما يقولون، وأَضَرُّهُ عِلْمُ جَوَاسِيسِ العَدُوِّ بِأَسْرارِ أُمَّتِهِم، وما يكون وراءَ ذلك. ومِثْلُ أَمْرِ الخَوْفِ والأَمْنِ سائِرُ الأُمورِ السِّيَاسِيَّةِ وَالشُّؤونِ العامَّةِ التي تَخْتَصُّ بِالخاصَّةِ دُونَ العامَّةِ[13]»[14].

بل إِنَّ الآيَةَ الكَريمَةَ ذُيِّلَت بِجَعْلِ التَّوْفيقِ لِمُراعاةِ شَريعَةِ اللهِ المقتضية لِتَرْكِ سُبُلِ الشَّيْطانِ مِن مَشْمولاتِ فَضْلِ اللهِ على أَوْلِيائِهِ، وذلك فـي سِياق الحديث عن رَدِّ أُمورِ الأَمْنِ والخَوْفِ وما يُماثِلُها مِن قضايا الشأن العامِّ إلى أُولِي الأَمْرِ؛ مما يَدُلُّ على أن مِن صُوَرِ أَمانِي الشَّيْطانِ أَنْ يُوقِعَ العامَّةَ في مـُخالَفَةِ شريعةِ اللهِ، مُخالَفَتِها مِن خلال مُنازَعَةِ وُلاةِ الأَمْرِ فيما جَعَلَهُ اللهُ سبحانه وتعالى مِن اخْتِصاصاتِـهِم؛ قال الله تعالـى: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اُ۬للَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُۥ لَاتَّبَعْتُمُ اُ۬لشَّيْطَٰنَ إِلَّا قَلِيلاٗۖ﴾[15]؛ قال العلامة محمد رشيد رضا: «لَوْلا فَضْلُ اللهِ عليكم ورَحْمَتُهُ بكم أيها الـمُسْلِمونَ بِما هَداكُمْ إلَيْهِ مِن طاعَةِ اللهِ والرَّسولِ ظاهِراً وباطِناً، وَتَدَبُّرِ القُرْآنِ وَرَدِّ الأُمورِ العامَّةِ إلى الرَّسولِ وإلى أُولِي الأَمْرِ منكم لَاتَّبَعْتُمْ وَسْوَسَةَ الشَّيْطانِ كما اتَّبَعَتْهُ تلكَ الطّائِفَةُ التي تقول لِلرَّسولِ: طاعَةٌ لك، وَتُبَيِّتُ غير ذلك، والتي تُذيعُ بِأَمْرِ الأَمْنِ والخَوْفِ وتُفْسِدُ على الأُمَّةِ سِياسَتَها به»[16].

ولا يعني ذلك بأي حال من الأحوال التَّأْسيسَ لامْتِهانِ النّاسِ واحْتِقارِهِمْ بِسَلْبِ حُرِّياتِـهِم بِدَعْوى أنهم مِن العامة، إِذْ ليس هناك أَيُّ تَلازُمٍ بين التَّسْليمِ لِوُلاةِ الأَمْرِ فيما جَعَلَهُ اللهُ مِن اخْتِصاصِهم مِـمَّا أَلْزَمَ النّاسَ طاعَتَهُم فيه، وبين الـمَهانَةِ باسْتِلابِ الـحُرِّيَّةِ وَاسْتِقْلالِيَّةِ النَّفْسِ، وإنما فيه ضَبْطُ مجالات ذلكم الخوض بِنَوْطِها بالجِهَةِ الـمُؤَهَّلَةِ تَوْفيراً لِشُروطِ نجاحها لا أقل ولا أكثر؛ قال العلامة محمد رشيد رضا رحمه الله بعد تقريره وجوب طاعة ولاة الأمر فيما ذلك وصفه: «لا غَضاضَةَ فـي هذا على فَرْدٍ مِن أَفْرادِ الـمسلمين، ولا خَدْشاً لِحُرِّيَّتِهِ واسْتِقْلالِهِ، ولا نَيْلاً مِن عِزَّةِ نَفْسِهِ، فَحَسْبُهُ أَنَّهُ حُرٌّ مُسْتَقِلٌّ في خُوَيْصةِ نَفْسِهِ…، وَلَيْسَ مِن الحِكْمَةِ ولا مِن العَدْلِ ولا الـمَصْلَحَةِ أَن يُسْمَحَ له بِالتَّصَرُّفِ في شُؤونِ الأُمَّةِ ومَصالِحِها، وأَن يَفْتاتَ عليها في أُمورِهَا العامَّةِ، وإِنَّما الحِكْمَةُ والعَدْلُ في أَن تَكونَ الأُمَّةُ في مَجْموعِها حُرَّةً مُسْتَقِلَّةً في شُؤونِـها كالأَفْرادِ فـي خاصَّةِ أَنْفُسِهِم، فلا يَتَصَرَّفُ في هذه الشُّؤونِ العامَّةِ إِلَّا مَن تَثِقُ بهم مِن أَهْلِ الحَلِّ والعَقْدِ الـمُعَبَّرِ عنهم في كِتابِ اللهِ بِأُولِي الأَمْرِ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُم – وقَدْ وَثِقَتْ بِهِم الأُمَّةُ – هو عَيْنُ تَصَرُّفِها، وذلك مُنْتَهَى ما يُمْكِنُ أَن تَكون به سُلْطَتُهَا مِن نَفْسِها»[17].

إن إقامة تلك الأحكام – المتوقفة على الإمامة – على أساس من العدل يجعل الإمام متفضلا يستحق رفعة مقامه بأن يُجعل من ضمن المستحقين لظل الله يوم لا ظل إلا ظله لحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: «سبعةٌ يظلّهم الله يوم القيامة في ظلّه يوم لا ظلّ إلا ظلّه»[18]؛ فبدأ بالإمام العادل؛ قال العز بن عبد السلام مبينا سبب ذلك: «وأجمع المسلمون على أن الولايات من أفضل الطاعات، فإن الولاة المقسطين أعظم أجراً وأجلّ قدراً من غيرهم؛ لكثرة ما يجري على أيديهم من إقامة الحق ودرء الباطل، فإن أحدهم يقول الكلمة الواحدة فيدفع بها مائة ألف مظلمة فما دونها، أو يجلب بها مائة ألف مصلحة فما دونها، فيا له من كلامٍ يسير وأجرٍ كبير»[19].

إنه لابد من ترك العواطف التـي تـحدو الناظر في هذه الأمور؛ فتجعله يُمَانِع مِن تفويض تدبيرها لولاة الأمر؛ لا لشيء إلا لأجل ما جُبِلَت النفوسُ عليه أحياناً مِن حُبِّ الـمُنازَعَة لهم، خاصة مع تَضَخُّم التَّأَثُّر بِمناهج غريبة تُمَكِّنُ مِن مُزاحمة اختصاصات الحاكم، أو لأجل ما ألفت النفوس أحياناً أخرى مِن شُيوع الخَوْضِ فيه خَوْضاً صار عادةً يُظَنُّ معها مَشْروعِيَّة خوض العُموم في أمرٍ يفتقر الخوضُ فيه إلى وُلاة الأمر، بل يراه – بغير حق – حقًّا مُكتسباً لا ينبغي التفريط فيه بأي حال من الأحوال، مما قد يحمله على الاستماتة لرفض ما تقتضيه قواعد العلم، وتستلزمه شواهد الواقع؛ مِن ضرورة وضع ما يُناسب من القواعد والضوابط التي تضمن سلامة المجتمع من كل صُوَرِ الإِخْلالِ به المُفْسِدَةِ لانْتِظامِ سَيْرِه.


[1]– المقدمة 1/78-79.

[2]– رواه مسلم رقم: (1848).

[3]– الأحكام السلطانية، ص: 3.

[4]– الغياثي، فقرة 14، ص: 22.

[5]– المقدمة، ص190.

[6]– مخطوط نظم “محصل المقاصد مما تعتبر به العقائد”.

   [7]– سورة النساء، الآية: 58.

   [8]– سورة الأعراف، الآية: 158.

[9]– الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام، ص: 108.

[10]– الإحكام فـي تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام، ص: 152.

  [11] – سورة النساء، الآية: 58.

[12]– سورة النساء، الآية: 82.

[13]– هي قضايا لها جهتان يُنظر مِن خلالهما إليها، جهة طبيعتها المتصلة بالشأن العام؛ فهي عامة بهذا الاعتبار، وجهة مَن يصلح لِتَوَلِّيها والاضْطِلاع بالنَّظَر فيها؛ فهي خاصة بهذا الاعتبار.

[14]– تفسير المنار، 5/298.

[15]– سورة النساء، جزء من الآية: 82.

[16]– تفسير المنار، 5/302.

[17]– نفسه، 5/300.

[18]– صحيح البخاري، 6/ 2496، برقم: 6421.

[19]– قواعد الأحكام في مصالح الأنام، 1/ 254.


ﺁﺧﺮ اﻟﻤﻘﺎﻻﺕ