مالك بن أنس وسر تشبث المغاربة بمذهبه




محمد العرائشي

 

مدخل:

كثير هم أولئك الذين كتبوا عن حياة الإمام مالك، وأفاضوا القول في ترجمته وحللوا شخصيته تحليلا دقيقا، فتحدثوا عن نشأته الأولى ونبوغه المبكر وغزارة علمه، وتبحره في علم الحديث والفقه، وسمو أخلاقه وصبره على المكروه، بالإضافة إلى أكابر الشيوخ الذين أخذ عنهم، وإلى فطاحل العلم الذين أنجبتهم مدرسته وكونتهم عبقريته، الشيء الذي أهله لأن يتربع على كرسي الحديث وأعطيت له الصلاحية في الفتوى وحده دون غيره من علماء المدينة.
ولذلك فإن الجديد في هذا الحديث هو تحليل ما كتب عن هذا الإمام العظيم، وإفراغه في أسلوب مبسط، ليكون مرجعا مصغرا لمن لم يتسع وقته لمراجعة المطولات، وقديما قيل: “خير الكلام ما قل ودل”، سيما ونحن في عصر قصرت فيه الهمم وضعفت فيه الذاكرة وتغلبت فيه الماديات على المعنويات، إذ جل شبابنا يجهل الكثير عن علماء الإسلام، وما قدموه من خدمات جليلة من أجل نشر وعي إسلامي حقيقي غير مشوب بالخرافات والأوهام وعما لاقوه في سبيل إحقاق الحق وإزهاق الباطل من تضحيات.
وإن من بين الأئمة الأفذاذ، إمامنا مالكا الذي قلد المغاربة مذهبه منذ الفتح الإسلامي الأول، نظرا لسهولته ومرونته؛ والذي هو في الحقيقة مستمد من الكتاب والسنة والإجماع وعمل أهل المدينة المنورة، وغير ذلك من الأدلة التي تعضد مذهبه وتقوي طريقة الأخذ به .
إذن فمن هو الإمام مالك؟
هو عبد الله بن مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي نسبة إلى (ذي أصبح) بطن من (حمير)، فهو من العرب اليمنيين، أمه العالية بنت شريك الأزدية العربية اليمنية، فنسبه كما يقول عن نفسه عربي خالص لا ولاء له.

ولادته:

ولد (بذي المروة) البعيدة عن المدينة المنورة بحوالي 192 كلم سنة (93هـ /712م) في قول الأكثر، وذلك في العصر الأموي زمن ولاية الوليد بن عبد المالك بن مروان المتوفى سنة (96هـ/714م)، وتوفي بالمدينة المنورة سنة (179هـ/795م) ودفن (بالبقيع) الذي يضم فريقا من آل بيت النبوة؛ بنات النبي صلى الله عليه وسلم، وولده الصغير إبراهيم وزوجاته، عدا خديجة، وبعض شهداء بدر، وشهداء أحد، وعثمان بن عفان، وأكثر من عشرة آلاف من الصحابة.
ولقد شاهد بعينه قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ورأى آثار الصحابة والتابعين وما كانت عليه المدينة من التقديس والتعظيم، فانطبع ذلك في نفسه ولازمه ذلك التقديس حتى مات.

أسرته:

أما أسرته فهي أسرة علم وصلاح وفضل، كان أبوه فقيها، وجده الأعلى أبو عامر، قيل إنه كان صحابيا شهد مع النبي صلى الله عليه وسلم المشاهد الأولى إلا بدرا لأنها قبل قدومه من اليمن، وقيل إنه تابعي، وأما جده الأسفل فهو من كبار التابعين وعلمائهم، وهو أحد الأربعة الذين غسلوا عثمان بن عفان رضي الله عنه، وكفنوه وحملوه ليلا إلى قبره بعد استشهاده من خصمه سنة (35هـ/656م).
وقد أدرك مالك الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز، وتوفي عمر بن عبد العزيز سنة (101هـ/720م)، ومالك في نحو الثامنة من عمره.
* طلبه للعلم:
بعد ما حفظ القرآن على يد قارئ المدينة ” نافع بن عبد الرحمن” أول القراء السبعة المتوفى بالمدينة سنة (169هـ/758م)، الذي أخذ القراءة عن سبعين من التابعين، والذي اختار المغاربة قراءته التي أخذها عنه تلميذه “ورش أبو سعيد عثمان بن سعيد المصري” المتوفى سنة (179هـ/813م)، وذلك لأن قراءة “نافع” هي سنة أهل المدينة كما قال الإمام مالك، وكان “نافع” قد اشتغل معلما لكتاب الله مدة تزيد عن السبعين سنة. وبعد ذلك، وجهته أمه للأخذ عن كبار علماء المدينة لأن المدينة كانت -آنذاك- مهد العلم ومقر الإشعاع الإسلامي؛ اجتمع فيها الرعيل الأول من الصحابة وتلامذتهم من بعدهم.

وأول هؤلاء:
ربيعة بن أبي عبد الرحمن، فقد قالت له أمه بعدما وجهته للأخذ عنه: “اذهب إلى ربيعة وتعلم منه علمه قبل أدبه”، وذلك بعدما ألبسته أحسن الثياب وعممته.
وكان ربيعة هذا إماما حافظا مجتهدا بصيرا بالرأي وفقه الرأي، ولذلك كان يقال له “ربيعة الرأي”، روى عن أنس بن مالك وكثير من التابعين توفي سنة (136هـ/754م).

ثانيهم:
جعفر الصادق أبو عبد الله بن محمد الباقر بن علي زين العابدين ابن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، المولود بالمدينة سنة (80هـ/699م) والمتوفى بها سنة (148هـ/765م) من أجلاء التابعين علما وعملا وأحد الإثني عشر.
يقول عنه الإمام مالك: “لقد كنت آتي جعفر ابن محمد وكان كثير المزاح والتبسم فإذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم اخضر واصفر، فما كنت أراه إلا على ثلاث خصال: إما مصليا، وإما صائما، وإما يقرأ القرآن، وكان من العلماء العباد الزهاد الذين يخشون الله.

ثالثهم:
نافع أبو عبد الله الديلمي، مولى عبد الله بن عمر المتوفى سنة (117هـ/736م)، أصابه مولاه من سبي الديلم، ففقه في الدين وكان من أعلم التابعين بفتوى ابن عمر، ومن أدقهم رواية للحديث، أخذ عنه مالك فقه عبد الله بن عمر، وما أفتى به في المسائل التي عرضت عليه وسئل عنها. وهو أحد رجال السلسلة الذهبية التي قال عنها أبو داود: إنها أصح الأسانيد، وهي: مالك عن نافع عن ابن عمر: وجمعهما بعضهم فقال:
سلسلة الذهب مالك الأبر
عن نافع عن الإمام ابن عمر
وقال آخر:
سلسلة الذهب ما عن مالك
عن نافع عن الإمام الناسك

*رابعهم:
ابن هرمز عبد الرحمن بن هرمز، ولقبه الأعرج، وكنيته: أبو داود، تابعي، وكان قارئا محدثا لازمه مالك نحو سبع سنين، وقال: “كنت آتي ابن هرمز بكرة فما أخرج من بيته حتى الليل”.
روى عن أبي هريرة وغيره، وتوفي سنة (117هـ/786م).
يقول البخاري: أصح الأسانيد عن أبي هريرة هو: عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة، وأبو الزناد هو عبد الله ابن ذكران آخر شيوخ مالك توفي سنة (130هـ/748م).
عن هؤلاء وأمثالهم أخذ مالك.
وتذكر المصادر أنه أخذ عن تسعمائة شيخ، منهم ثلاثمائة من التابعين، وستمائة من تابعيهم، وترك الأخذ عن أهل دين وصلاح لا يعرفون الرواية. فقد روي عنه قال:” لقد أدركت سبعين ممن يقولون: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند هذه الأساطين مشيرا إلى (أعمدة المسجد النبوي) فما أخذت عنهم شيئا وإن أحدهم لو اؤتمن على بيت مال كان أمينا إلا أنهم لم يكونوا من أهل هذا الشأن.
ولا غرابة في ذلك فقد عاش في خير القرون التي أثنى عليها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:” خير الناس قرني ثم الذين يولونهم” رواه البخاري في كتابه “الشهادات” عن عبد الله بن مسعود وفي رواية للبخاري ومسلم عن عمران بن حصين “خيركم قرني ثم الذين يولونهم ثم يكون بعدهم قوم يخونون ولا يؤتمنون” ذكره السيوطي في “الجامع الصغير”.

ذكاؤه وقوة ذاكرته:

لقد رزقه الله ذاكرة قوية وفهما ثاقبا، فمما يروى عنه أنه سمع من شيخه محمد بن مسلم المعروف بابن شهاب الزهري المدني نحو أربعين حديثا، أملاها عليه في مجلس واحد ولم يكتبها مالك ثم بعد ذلك استظهرها من حينه في ذلك المجلس، فقال له شيخه الزهري: أنت من أوعية العلم وإنك لنعم المستودع للعلم.
ويحكى عنه أنه كان يحفظ كل ما يسمع عنه ويدون ما يحفظه، ولكنه لا يحدث الناس إلا بما يرى المصلحة في إفشائه للناس ونشره بينهم، وما يستقيم مع مقاييسه في النقد.

انتصابه للتدريس والفتوى:

جلس للتدريس بالمجلس النبوي في سن مبكر، إذ كان يبلغ من العمر -آنذاك- نحو عشرين سنة في بعض الروايات، ولكنه لم يعقد مجالسه للعلم ولم يتصدر للفتوى إلا بعد أن شهد له شيوخه (سبعون شيخا) بأهليته، فقد روي عنه أنه قال: “ما جلست للفتيا حتى أذن لي في ذلك سبعون من أهل العلم”، وفي رواية: “ما أفتيت حتى شهد لي سبعون محنكا أني أهل لذلك”.
وكان شديد التعظيم لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يحدث إلا على وضوء ولا يركب دابة في دار الهجرة على ضعفه.
* تحريه في الفتوى:
كان يبتعد عن الإكثار من الإفتاء ويقول: لا أدري فيما لا يعلم.
قال خالد بن خداش: قدمت على مالك من العراق بأربعين مسألة، فقال في اثنين وثلاثين منها: لا أدري، وقال للسائل: إذا سئلت لماذا لم يجب مالك عن جميع الأسئلة؟ فقل: قال مالك: لا أدري. وكان يقول: “ربما وردت علي المسألة تمنعني من الطعام والشراب والنوم”، ويقول: “ليس أحد إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم”.
وفي المثل: لا أدري نصف العلم، شاهده قوله تعالى في محاورة آدم مع الملائكة: (سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا)، {الآية: 32 من سورة البقرة}.
ومن أقواله: “إنما أنا بشر أصيب وأخطئ فانظروا في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به، وكل ما لم يوافق ذلك فاتركوه”، ويقول أيضا: إذا صح الحديث فهو مذهبي واضربوا بقولي عرض الحائط.

الآخذون عنه:

روي أنه روى عنه ما يزيد عن ألف ثلاثمائة من أعلام الأقطار الإسلامية: الحجاز واليمن، والعراق وخراسان، والشام ومصر، وإفريقيا والأندلس، من بينهم أئمة المذاهب الثلاثة: أبو حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل.

ثناء الأئمة عليه:

قال عنه الشافعي: مالك بن أنس معلمي ولا أحد أمن علي من مالك، وعنه أخذنا العلم، وإذا ذكر العلماء فمالك النجم، وقال: إذا جاء الحديث عن مالك فشد به يدك.
وقال في شأنه أحمد بن حنبل: إذا رأيت الرجل يبغض مالكا فاعلم أنه مبتدع.
وقال عنه البخاري في شأن تثبته في الحديث: أصح الأسانيد مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة.
وكان الأوزاعي إذا ذكر مالكا قال: عالم العلماء وعالم أهل المدينة، ومفتي الحرمين.
وقال المغيرة في شأنه: والله ما رفع هذا الرجل إلا بالتقوى.
قال عياض: كان مالك كثيرا ما يتمثل بقول الشاعر:
وخير أمور الدين ما كان سنة وشر الأمور المحدثات البدائع.
وكان يرد على أصحاب الأهواء بالآية الكريمة :(قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة)” الآية 108 من سورة يوسف”.
ومن أقواله:” لا تسأل عما لا تريد فتنسى ما تريد، فإنه من اشترى مالا يحتاج إليه، باع ما يحتاج إليه”.
وكانت العلماء تقتدي بعلمه، والأمراء تستنير برأيه، والعامة منقادة إلى قوله، وكان يأمر فَيُمتثل أمره بغير السلطان، ويقول فلا يسأل عن دليل على قوله، ويأتي بالجواب فما يجسر أحد على مراجعته.
ولذلك قيل فيه:
يأتي الجواب فلا يراجع هيبة والسائلون نواكس الأذقان
وكان يحض على اللباس الحسن، وإذا علق أحد على ثوبه النظيف تلا قوله تعالى :
(قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق، قل هي للدين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة) “الآية 32 من سورة الأعراف”.

فراسته:

جاء في الجزء السادس من “المعيار” للونشريسي ما يأتي:
حكى الحارث بن أسد القفصي، وكان ثقة خيارا مستجابا، يختم القرآن في كل ليلة من رمضان، وكان ممن أخذ عن مالك، قال: لما أردنا وداع مالك دخلت عليه أنا وابن القاسم وابن وهب، فقال له ابن وهب: أوصني، فقال له: اتق الله وانظر عمن تنقل، وقال لابن القاسم: اتق الله وانشر ما سمعت، وقال لي: اتق الله وعليك بتلاوة القرآن. قال الحارث رحمه الله: لم يرني أهلا للعلم.
وقد كان إثر ذلك يُستفتى فلا يفتي، ويقول: لم يرني مالك أهلا للعلم.
قلت: وفراسة المومن لا تكاد تخطئ، ففي الحديث الشريف:” اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله عز وجل”. رواه البخاري في “التاريخ” والترمذي عن ابن سعد كما في “الجامع الصغير” للسيوطي.

مؤلفاته:

ذكر القاضي عياض في “المدارك” أن للإمام مالك مؤلفات، روي عنه أكثرها بأسانيد صحيحة، لكن لم يشتهر عنه غير “الموطأ”.
وهو أول مؤلف في الحديث والفقه معا، ظهر في القرن الثاني الهجري بالمدينة المنورة، وما تضمنه من أصح الصحيح؛ فقد جمع فيه الصحاح من الحديث والأخبار، والآثار وفتاوى الصحابة والتابعين، فهو المادة العظمى “لكتب الأحاديث الستة”، وقد ملأ البخاري “جامعه الصحيح” بالرواية عنه وكان يقول: أصح إسناد عند المحدثين هو مالك عن نافع عن ابن عمر.
وجاء في “كشف الظنون”: هو أول كتاب في الإسلام، وقد أقام في تهذيبه وتأليفه نحو أربعين سنة، وهو أول من وضع اسما لكتابه فسماه “الموطأ”، لأنه وطأه ومهده وسهله للناس، أو واطأه عليه علماء وقته، وعددهم سبعون من علماء المدينة.
كانت أحاديثه عشرة آلاف إلى أن بلغت نيفا وخمسمائة.
قال عنه معرفا بكتابه: فيه حديث الرسول وقول الصحابة والتابعين ورأيهم، وقد تكلمت برأيي على الاجتهاد، وعلى ما أدركت عليه أهل العلم ببلادنا، ولم أخرج عن جملتهم إلى غيره. كما جاء في الجزء الأول من “المدارك”.
وقال الإمام الشافعي: “ما في الأرض كتاب في العلم أكثر من ” كتاب مالك “.
وقال أحمد بن حنبل: ما أحسن “الموطأ” لمن تدين به.
ويقول العالم الشنقيطي محمد حبيب الله:
أول من ألف في الصحيح مالك الإمام في الصحيح
كما له ابن حجر قد رجعا في نكث كان لها قد جمعا