عيد العرش المجيد الأصالة والتميز



عيد العرش المجيد الأصالة والتميز

ذ. ابراهيم بن أحمد الوافي

رئيس المجلس العلمي المحلي لإنزكان أيت ملول

 

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيدنا محمد أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه.

لا شك أن المغرب الأقصى أدام الله عليه النعم بلا عد ولا إحصاء، يعد من البلدان القلائل التي عُرفت عبر تاريخها الطويل، ومجدها العريق، بالقيام بدور كبير في المحافظة على المكونات الأصيلة والمتميزة للحضارة الإسلامية، والتشبث بها، والتعهد برعايتها لضمان استمراريتها، وذلك على مستويات عدة، دينية وسياسية واجتماعية وثقافية واقتصادية وعمرانية وحضارية وغيرها، وشكلت محافظته على هذه المكونات منجما لا ينفد، ومعينا لا ينضب، ظل المغرب يمتح منه لنفسه، ويقدم المزيد من تجربته فيه لغيره، ويتجلى هذا النبع الفياض في محافظته على تراثه المادي واللامادي، لدعم وجوده وكيانه وتميزه، وسعيه  بذلك في الإشعاع على محيطه، ومد جسور التواصل، والإسهام في التلاقح  الفكري والعمراني والحضاري للأمم والشعوب، فهو البلد المغاربي والعربي والإسلامي، الذي ظل عبر تاريخه محافظا على مكانته المرموقة، وعلاقاته الودية مع الأمم والشعوب، بمختلف جنسياتها وقاراتها؛ إيمانا منه بأن تبادل المصالح، من السنن الإلهية التي تقوم عليها الحياة البشرية في مختلف الميادين والمجالات.

وبفضل هذه الأصالة والتميز على أكثر من صعيد، نذكر منها ما حباه  الله تعالى به، وأفاض عليه من أنواع البركات، جعلته يتقلب في طيب العيش والمسرات، ويظهر شكره لله في كل المناسبات، ممتثلا لقوله تعالى: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثَۖ﴾[1]، وقوله صلى الله عليه وسلم: «من أنعم الله عليه نعمة، فإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على خلقه»[2]. وفي رواية: «على عبده».

ومنها محافظته على ثوابت الدنيا والدين، التي تتنوع وتتعدد منافعها، لا سيما  تشبث المغاربة بثابت إمارة المومنين، الحامي لحمى الملة والدين، وهو تشبث بنظام شرعي أصيل، وعقد اجتماعي أثيل، مكوناته فريدة، ومزاياه عديدة، من أهمها حماية الحدود والثغور، وتوفير الأمن والاستقرار، وبث السكينة والطمأنينة في النفوس، وهذه من النعم التي لا تقدر بثمن، لا سيما في الوقت الراهن.

ومنها أصالته وتميزه في تنظيم وترتيب احتفالات مناسباته الدينية وذكرياته الوطنية، فينزل كل واحدة منها منزلتها، ويعطيها ما تستحق وفق وزنها وقيمتها، وما تتميز به عن غيرها.

فاحتفال المغاربة بذكرى عيد العرش المجيد، هو احتفال خاص، يشع سناه في المغرب وفي باقي بلدان العالم، ويكفي هذا الاحتفال السنوي شرفا كونه مما يتميز به المغرب عن غيره من شعوب العالم، وهذا ليس من باب الصدف والاتفاق؛ وإنما هو من باب إعطاء الأمور ما تستحق؛ لأن المغرب يدين بنظام البيعة الشرعية للإمام الأعظم، المستمدة من تعاليم الإسلام، التي بموجبها يتولى تسيير دفة الحكم، ومهمة حفظ النظام العام، والسعي إلى جلب المصالح ودرء المفاسد، في ضوء ما يرجع إلى أمهات وقواعد الدين، الضامنة لإقامة واجب البيعة والطاعة، مقابل حماية الملة والدين، وكفاية المحتاجين، وسد الخلل، ودفع خطر المعتدين.

وكلها من أصول ولوازم البيعة الشرعية، التي تعقد لوليَّ الأمر، وتتم بيعته الخاصة والعامة على السمع والطاعة في المنشط والمكره، والعسر واليسر، ويلتزم الجميع بذلك، ويستمرون على تأكيده السنوي، في ذكرى عيد العرش المجيد من كل عام، ولا يحيدون عنه قيد أنملة بقول ولا فعل؛ امتثالا لما جاء في الحديث الشريف الذي أخرجه الإمام مسلم في باب الأمر بلزوم الجماعة، بسنده عن نافع مولى ابن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، قال: جاء عبد الله بن عمر إلى عبد الله بن مطيع، حين كان من أمر الحَرَّة ما كان، زمن يزيد بن معاوية، فقال: اطرحوا لأبي عبد الرحمن وسادة، فقال: إني لم آتك لأجلس، أتيتك لأحدثك حديثا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من خلع يدا من طاعة، لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتة جاهلية».[3]

وأما أمر البيعة في الإسلام، فهو أمر واحد وشأن واحد، لا يقبل التبعيض؛ فإذا قامت البيعة وفق شروطها، فإنها تصير ملزمة للجميع؛ لأنها عهد بين الأمة، وبين إمامها الأعظم؛ يقول الإمام الماوردي (ت. 450هـ): “فإن الله جلت قدرته، ندب للأمة زعيما خلف به النبوة، وحاط به الملة، وفوض إليه السياسة؛ ليصدر التدبير عن دين مشروع، وتجتمع الكلمة على رأي متبوع، فكانت الإمامة أصلا عليه استقرت قواعد الملة، وانتظمت به مصالح الأمة، حتى استثبتت بها الأمور العامة، وصدرت عنها الولايات الخاصة، فلزم تقديم حكمها على كل حكم سلطاني، ووجب ذكر ما اختص بنظرها على كل نظر ديني؛ لترتيب أحكام الولايات على نسق متناسب الأقسام، متشاكل الأحكام.”[4]

ومن ثم كانت البيعة عقد ولاء حصري، قصد الشرع الحكيم منه درء الفتنة، وتحقيق وحدة الأمة، وجمع كلمتها ولم شملها، وجعلها صفا واحدا خلف وليِّ أمرها؛ لأن في ذلك عين مصلحتها الدينية والدنيوية، ومكمن عزها ونصرها وسؤددها.

وقد أدرك المغاربة مبكرا قيمة ومزية البيعة الشرعية، وأخذوا بها، واعتبروها ركـنا ركينا، وثابتا متينا، مستندا في أصله، إلى العقيدة والدين، ونص عليه كتاب رب العالمين، وبينته سنة نبيه الأمين، عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، بقوله: «إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي».[5]

والتمسك بالقرآن الذي يوصي به المنزل عليه، هو التشبث به والعمل بما فيه، والائتمار بأوامره، والانتهاء عن نواهيه؛ ومن أوامره الأخذ بنظام البيعة؛ لقوله تعالى:﴿ اِنَّ اَ۬لذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اَ۬للَّهَ يَدُ اُ۬للَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْۖ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَيٰ نَفْسِهِۦۖ وَمَنَ اَوْف۪يٰ بِمَا عَٰهَدَ عَلَيْهِ اِ۬للَّهَ فَسَنُوتِيهِ أَجْراً عَظِيماٗۖ﴾[6]؛ ومنها التمسك بعترته وآل بيته، بتقديمهم وإجلالهم وتقديرهم حق قدرهم، والتعلق بمحبتهم، والاهتداء بهديهم وسيرتهم، المستمدة من هدي وسيرة جدهم المصطفى صلى الله عليه وسلم، الذي قال الله تعالى في حقه: ﴿وَمَآ ءَات۪يٰكُمُ اُ۬لرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَه۪يٰكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْۖ﴾[7]. ومن ثم كان لأصالة وتميز احتفال المغاربة بذكرى عيد العرش المجيد، مغزاه ومرماه ومعناه، ومقاصده التي لا تخفى، على أولي الأحلام والنهى، فهو احتفال يجمع بين المؤصل الديني والحضاري، والمقوم الوطني والعمراني، وعلى من أراد المزيد، فعليه بتقليب صفحات تاريخ المغرب المجيد، الزاخر بعطائه الوافر في هذا الباب، الممتد عبر القرون، ويكون أول ما يطالعه ويشد انتباهه، خصوصية تلك العلاقة التي تربط بين الراعي والرعية، والقمة والقاعدة، والملك والشعب، ومدى تجذر تلك العلاقة وتلاحمها التلقائي؛  فلا تكاد تمر مناسبة دينية أو وطنية، إلا وتزيد من ذلك التواد والتلاحم، وتجلي متانة ذلك الترابط، وتنمي أثره الحميد، وتقوي رصيده التليد، الذي يشكل الأصالة والخصوصية، ويمثل سر التواصل والاستمرارية.

إن مناسبة عيد العرش المجيد، تكتسي في هذا البلد السعيد، رمزية خاصة؛ لا تزيدها الأيام والسنون إلا أصالة ورسوخا، وسؤددا وشموخا، ولا أدل على ذلك من امتداد إشعاع إمارة المومنين في الأفق الإفريقي، امتدادا منقطع النظير، تتجلى فيها مراسيم البيعة الشرعية، المجسدة للعهد المتواصل بين الراعي والرعية، ومبرزة مظاهر الإمامة العظمى، في تدبير أمر الدنيا والدين، والسهر على وحدة البلاد وسلامة المواطنين.

إن أصالة المغاربة واعتزازهم بثوابتهم وتميزهم بها، يجعلهم يتطلعون بشوق إلى ذكرى عيد العرش المجيد، ليحتفلوا بها غاية الاحتفال، وينتهزوا فرصتها؛ ليعبروا من خلالها عن عميق مشاعرهم وأحاسيسهم الدينية والوطنية والاجتماعية، وولائهم وإخلاصهم للدوحة العلوية الشريفة،  ترسيخا لما أصله الأجداد، وتلاهم عليه الأحفاد، عن جدارة واقتناع، وصار الأمر إلى ظاهرة سياسية مغربية فريدة في النوع، عريقة في المجد، نسيج وحدها في التلاحم والتآزر، والتمازج بين الراعي والرعية، مع المحافظة على جليل المراسيم، الضاربة بأصالتها في أعماق التاريخ الديني والاجتماعي والسياسي المغربي، شديدة الالتصاق بالكيان والوجدان؛ دالة على أن الاحتفال بهذه الذكرى، ما هو إلا تعبير عن المشروعية التي تنعم بها إمارة المومنين في هذه البلاد، وتؤكد على سلامة الاختيار، ورسوخ قدم الإسلام في هذه الديار، في ضوء الشروط اللازمة لتزكية ذلك التعاقد المأمور به شرعا، المعمول به فعلا، المستساغ عقلا وعرفا.

صان الله تعالى بمنه وكرمه بلدنا المغرب، وجعله آمنا مطمئنا، رخاء سخاء، ووقاه كيد الكائدين، وشر الحاسدين، وأبقاه دوما جادا في سعيه الحثيث نحو النماء والازدهار، والأمن والسلم والاستقرار، وبارك في عمر قائده الهمام صاحب الجلالة الملك محمد السادس، أعز الله أمره، وجعله قرير العين بسمو ولي عهده المحبوب مولاي الحسن، وشد أزره وقوى عضده بصنوه السعيد المولى رشيد، وكافة أسرته الملكية الشريفة إنه سميع مجيب.


[1] سورة الضحى، الآية: 11.

[2] مسند الإمام أحمد، ح. 19934.

[3] صحيح مسلم، ح. 58 – (1851).

[4] الأحكام السلطانية، للماوردي، (ص: 13).

[5] سنن الترمذي، ت. بشار، ح. 3786.

[6] سورة الفتح، الآية: 10.

[7]  سورة الحشر، الآية: 7.