جوانب من عناية سلاطين المغرب بموطأ الإمام مالك



جوانب من عناية سلاطين المغرب بموطأ الإمام مالك

 د. علي لغزيوي

جامعة سيدي محمد بن عبد الله- فاس

 

 سنركز في هذا المقال على رصد بعض مظاهر هذه العناية بموطإ مالك لدى سلاطين المغرب، خاصة مع الإشارة إلى جهودهم، من خلال مجموعة من نماذجه المخطوطة بخزانة القرويين بفاس خاصة.

تواريخ النسخ

وأما من حيث تواريخ النسخ التي يتحدد على ضوئها عمر كل نسخة فنجد أن من النسخ الموجودة بخزانة القرويين ما هو عتيق من حيث ورقه ومداده، مما يؤكد قدمه، وقد ذكر المرحوم الأستاذ محمد العابد الفاسي أن بعضا منها قد يعود تاريخ نسخه إلى القرن الخامس أو السادس للهجرة، ولكن دون حسم أو تحديد، فقد قال عن النسخة ذات الرقم 169 إنها نسخة أندلسية، والخط قديم يمكن أن يكون من خطوط القرن الخامس أو السادس، في كاغد أصاب أوراقه التلاشي[1]، وأما النسخة ذات الرقم 988 فخطها أندلسي قديم جدا صحيح[2].

وأمام هذا الوضع الذي آلت إليه معظم هذه النسخ بسبب قدمها وما اعتراها من ظروف قاسية وآفات أدت إلى ضياع مجموعة من أوراقها، ومحو اسم الناسخ وتاريخ النسخ في أغلبها، فإن النسخة الصريحة من بين هذه النسخ، ولعلها الأقدم، تعود إلى العصر المرابطي، وسنعود إليها لإلقاء الضوء عليها ووصف حالها.

وتتوالى تواريخ النسخ خلال العصر الموحدي، ونقف في إحدى نسخه المخطوطة بخزانة القرويين على وثيقة مزدوجة تؤكد سماعه ونسخه برواية يحيى بن يحيى الليثي بالأندلس في العصر الموحدي بمدينة مرسية، على يد محمد بن أحمد بن علي بن منخل في عقب شهر رجب الفرد عام ثمانية وعشرين وستمائة للهجرة، مع تأكيد أن المقابلة  بالأصل المسموع فيه بلغت بحسب الطاقة والاجتهاد[3]، وهذا ما يؤكد أن هذه النسخة كانت معتمدة ومقررة في مناهج الدراسة بالأندلس، وقد تم نسخها وتصحيحها وتوثيقها بالمقابلة والمراجعة لتكون مرجعا ويتوالى الاهتمام به في العصر المريني فالسعدي فالعلوي إلى حدود القرن الثالث عشر للهجرة، وذلك ما يؤكد توالي اهتمام المغاربة بالموطإ عبر العصور، وكثير من النسخ يرجع سبب نسخها إلى رغبة هذا السلطان أو ذاك، فقد أمر علي بن يوسف بن تاشفين بأن تنتسخ له نسخة من الموطإ برسم خزانته بمراكش، وكان عدد من ملوك العلويين يوجهون الأمر للنظار والمحافظين بالخزانة لتجديد النسخ المهترئة المتلاشية على أيدي الطلبة الماهرين المجودين للخط كلما تطلب الحال ذلك، مساهمة منهم في تجديد حياة مخطوطات الخزانة.

وهناك النسخة ذات الرقم 167، ويعود تاريخ الفراغ من نسخها إلى الخامس من شهر شوال عام 803 للهجرة، ولكن اسم الناسخ غير مذكور، وأما النسخة ذات الرقم 986 فيعود تاريخ نسخها إلى سنة 1166 للهجرة، على يد الكاتب محمد الأكراشي الشافعي العباسي، ثم النسخة ذات الرقم 987، ويرجح أن يعود خطها إلى القرن العاشر الهجري.

الوقف والتحبيس

ويقودنا هذا إلى الوقوف قليلا عند ظاهرة وقف الكتب وتحبيسها على خزائن الكتب بصفة عامة، وعلى خزانة القرويين خاصة، لنشير إلى من بين نسخ الموطإ ذات القيمة العلمية والوثائقية بهذه الخزانة النسخة المرابطية من الموطإ التي سنعود للحديث عنها فيما بعد، وقد حبسها السلطان المريني أبو عنان على الخزانة التي أسسها بجامع القرويين، في أواخر ذي القعدة من سنة 750 للهجرة، وهي سنة تأسيسه لهذه المعلمة الثقافية المنيفة، وأما النسخة ذات الرقم 987 فهي من تحبيس الخليفة مولاي علي بن سيدي محمد بن عبد الله عام 1183 للهجرة، وهناك النسخة ذات الرقم 165 التي سبقت الإشارة إليها، وهي من تحبيس السيدة عائشة بنت سيدي المدني الحمومي بتاريخ ثاني عشر ذي الحجة من عام 1276 للهجرة، وفي ذلك ما يؤكد دور المرأة المغربية في الانفتاح على مجال العلم وأهله، وحرصها على المشاركة في تنشيط الشأن الثقافي بالوسائل المتاحة حينئذ، وقد سجل التاريخ المغربي لهذه السيدة الكريمة ولغيرها من نساء المغرب مشاركات متعددة في مجال الوقف العلمي، وذلك ما تؤكده وثائق تحبيس الكتب النفيسة على كبريات الخزائن ومكتبات المساجد الكبرى بحاضرة فاس وبغيرها من جهات المغرب.

محاذي الموطإ للمهدي بن تومرت:

إذا كانت عناية العلماء قد انصبت على موطإ الإمام مالك حفظا ورواية وتدريسا وتعليقا وشرحا، فإن هناك من سلاطين المغرب من شاركهم في تلك المآثر، وفي مقدمتهم الخليفة الموحدي المهدي بن تومرت (ت. 524هـ) الذي جمع ببراعة بين التدبير السياسي والقيادة العسكرية والتمهيد لإدارة شؤون الدولة في عنفوان شبابها، وبين المشاركة العلمية المتميزة، وذلك ما جعل مصنفاته تتنوع وتتعدد، فقد وصف بأنه فقيه أديب أصولي زاهد، وذكرت له المصادر المصنفات الآتية[4].

كتاب أعز ما يطلب – العقيدة المرشدة – كنز العلوم – التنزيهات – التسبيحان – الإمامة تعليق في الأصول – محاذي الموطإ الذي توخى فيه تلخيص موطإ الإمام مالك، وهو الذي يعنينا أمره في هذا العرض، ولذلك سنلقي عليه بعض الضوء قبل الانتقال إلى وصف النسخة المرابطية من الموطإ.

من نسخ محاذي الموطإ بخزانة القرويين النسخة التي تحمل الرقم 181، عدد أوراقها 92، أصابها نقص أدى إلى بتر قدّره المرحوم العابد الفاسي بنحو ورقتين، وهذه النسخة مكتوبة على رق الغزال، وهي نسخة أثرية من نوادر الخزانة، مدادها أسود، ورؤوس مسائلها مذهبة، كما كتبت بعض أوائل الجمل بألوان مختلفة، تتخللها زخارف مذهبة تفصل بين جزء وآخر، كتبت داخل تلك الزخرفة بخط مموه بالذهب أيضا كالعبارات الآتية: كمل كتاب كذا، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد رسول رب العالمين وخاتم النبيئين، وعلى آله الطاهرين وسلم تسليما.

وذكر المرحوم محمد العابد الفاسي نسخة أخرى من محاذي الموطإ تحمل رقم 574/80، ناقصة من الأخير، ولكنني لم أعثر عليها ضمن محتويات الخزانة ولا في فهارسها، ومن مميزاتها أن نص السند في روايتها تام لم يتعرض للمحو والاندثار كما حصل للنسخة السابقة.

النسخة المرابطية من موطإ الإمام مالك (…)

دعوة أمير المؤمنين الملك محمد السادس إلى تحقيق الموطإ

وفي هذا المجال يدخل النداء الملكي السامي الذي تضمنه خطاب أمير المؤمنين الملك محمد السادس خلال ترؤسه لافتتاح الدورة الأولى لأعمال المجلس العلمي الأعلى المنعقدة بالقصر الملكي بفاس في 8 يوليوز 2005، وخلال ذلك ركز جلالته على ضرورة تحديد مرجعية الفتوى، وأعلن عن إحداث هيئة علمية داخل المجلس العلمي الأعلى تفعيلا للاجتهاد على يد علماء متخصصين من جهة، وتحصينا للفتوى من جهة أخرى، ثم حمل اللجنة الدائمة لإحياء التراث مسؤولية العمل من أجل تحقيق كتاب الموطإ تحقيقا علميا متقنا في مستوى موضوعه، وهذه مقاطع من خطاب جلالته يقول فيها:

“وفي هذا السياق، قررنا أن تكون فاتحة أعمال المجلس العلمي الأعلى تكليفه، طبقا لما يراه من رأي فقهي متنور، بتوعية الناس بأصول المذهب المالكي، ولاسيما في تميزه بالعمل بقاعدة المصالح المرسلة، التي اعتمدتها المملكة المغربية على الدوام؛ لمواكبة المتغيرات في مختلف مناحي الحياة العامة والخاصة، من خلال الاجتهادات المتنورة، لأسلافنا الميامين ولعلمائنا المتقدمين. وهو الأصل الذي تقوم عليه سائر الأحكام الشرعية والقانونية المنسجمة والمتكاملة، التي تسنها الدولة بقيادتنا، كملك وأمير للمؤمنين، في تجاوب مع مستجدات العصر، والتزام بمراعاة المصالح، ودرء المفاسد، وصيانة الحقوق، وأداء الواجبات.

كما نكلف اللجنة الدائمة لإحياء التراث، بالعمل على تحقيق كتاب “الموطإ”، لإمامنا مالك بن أنس، رضي الله عنه، تحقيقا علميا متقنا، يليق بموضوعه، وبالمكانة التي يحظى بها لدى المغاربة، وإننا لننتظر من هذه اللجنة استدراك ما فات طبعاته السابقة، وذلك بالرجوع إلى مخطوطاته المغربية الفريدة، ليطبع في حلة وطنية أصيلة، جديرة بالمغرب، كمنارة مشعة للفقه المالكي”[5].

وعسى إذن أن تكون هذه النسخ وغيرها كثير مساعدة للعلماء الذين وكل إليهم أمر إخراج النسخة الصحيحة الموثقة من موطإ الإمام مالك رضي الله عنه، لتكون مرجعا موثقا معتمدا، وأن يستفيدوا منها متنا وطررا، كما يستفيدون من غيرها من النسخ، ليكونوا في مستوى النداء الملكي بما له من أبعاد ودلالات متعددة.

نسخ الموطإ بخزانة القرويين

ذكر منها المحافظ الأسبق المرحوم العلامة محمد العابد الفاسي في فهرسه ثمان نسخ، وتحمل الأرقام الآتية: 165 – 167 168/ 1- 169 – 205 – 986 – 987 – 988.

وتتفاوت هذه النسخ من حيث الحجم والحالة، وتختلف في الورق أو أنواع الرق، ومدى المقابلة والتصحيح، وفي أنواع الخطوط، وفي التمام أو النقص وغير ذلك.

وبتأمل هذه النسخ يتبين بوضوح أن عناية العلماء والسلاطين والأمراء والأعيان بالموطإ كانت كبيرة جدا في المغرب وباقي بلاد الغرب الإسلامي؛ حيث ساد المذهب المالكي منذ حياة صاحبه، وقد تمثلت تلك العناية في عدة مظاهر منها: الرواية والتدريس، ومن المعروف أن أشهر روايات الموطإ عن الإمام مالك هي: رواية يحي بن يحي المصمودي الليثي ( ت234 هـ) الذي تتلمذ على الإمام مالك، وعاد إلى الأندلس يحمل لواء مذهب أستاذه، وهناك روايات أخرى لموطإ مالك منها: رواية ابن القاسم، ورواية ابن وهب، ورواية القعنبي، ورواية أبي مصعب الزهري، ومن المعلوم أن عدد الأحاديث المروية تختلف زيادة أو نقصا بحسب هذه الرواية أو تلك، وقد أجمع العلماء والباحثون قديما وحديثا على أن أشهر رواياته هي رواية يحيى بن يحيى، فإذا ذكرنا الموطإ هكذا مطلقا انصرف الأمر إلى روايته بالتحديد، وبعد الرواية والتدريس تأتي العناية به عن طريق النسخ لتعميم تداوله بين الطلبة، مع التفاوت في البساطة أو التأنق في الخط والزخرفة والتنميق وما إلى ذلك من أشكال التزيين التي لا تزال ماثلة في معظم هذه النسخ، وتبعا لذلك فبالنظر إلى الخطوط والنساخ: فإن هذه النسخ تجمع بين الخط المغربي والخط الأندلسي والخط المشرقي، وبحكم ذلك يختلف الناسخون ما بين مغربي وأندلسي ومشرقي.

وأما في المغرب فقد اضطلع عدد من العلماء جيلا بعد آخر بحمل لواء هذا المذهب والالتزام بالذب عنه، ولهم في ذلك مؤلفات تشهد بذلك، وفي مقدمتهم: أبو عمران الفاسي، وتلميذه عبد الله بن ياسين، ودراس بن إسماعيل وجماعة أخرى.

وإذا كانت عمليات النسخ الأصلية والمتجددة تؤدي إلى تعديد النسخ وتوفيرها لدى الطلبة فإن عملية الوقف والتحبيس العلمي أو الثقافي الذي قامت عليه خزائن الكتب عبر العصور الإسلامية قديما في الغالب كانت وسيلة لإغناء رصيدها العلمي، كما كان ذلك السلوك الإسلامي الحضاري دليلا على الإيثار، وعاملا من عوامل توسيع تداول الكتاب بين طلبة العلم.

الهوامش

[1] – فهرس مخطوطات خزانة القرويين، 1/172.

[2] – المصدر نفسه، 3/100.

[3] – يراجع ظهر الورقة الأولى من النسخة المخطوطة بخزانة القرويين، تحت رقم 165.

[4] – من هذه المصنفات ما طبع، مثل أعز ما يطلب، ومحاذي الموطإ الذي طبع بفاس.

[5] – من خطاب أمير المؤمنين خلال ترسه لافتتاح الدورة الأولى لأعمال المجلس العلمي الأعلى بالقصر الملكي بفاس يوم 8 يوليوز 2005.