ثورة الملك والشعب في تجدد مستمر بقيادة أمير المؤمنين، حفظه الله



ثورة الملك والشعب في تجدد مستمر بقيادة أمير المؤمنين، حفظه الله

ذ. أحمد الأزمي             

جامعة سيدي محمد بن عبد الله، فاس

 

مقــدمــة:

من أجل بسط القول في موضوع هذا المقال المعد تخليدا لذكرى ثورة الملك والشعب المجيدة، المرتبطة بإمارة المؤمنين ورمزيتها بالمغرب، وما تحققه من وحدة والتحام بين الملك والشعب على توالي السنين والأعوام، علاوة على فتوحاتها وإبداعاتها المتعددة في مجالات التنمية الشاملة، من تعليم وصحة وشغل، بتكامل محكم، مع ضمان حقوق الإنسان المغربي من أجل عيش كريم في كنف السلم والاستقرار على المستويين الداخلي والخارجي، لذلك سنخصص محوريْن اثنين لإبراز تجليات ومضامين ما نعده ثورة متجددة بقيادة إمارة المؤمنين في تفاعل والتحام مستمرين بين الملك والشعب.

يتناول المحور الأول منهما بعضا من الإفادات الشرعية والتاريخية المؤسسة لإمارة المؤمنين، ويتطرق المحور الثاني لمظاهر وتجليات التجديد والابتكار لهذه الإمارة التي يجسدها صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله، من أجل خلق نهضة شاملة اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا.

 

Iإمارة المؤمنين في المغرب: المفهوم والأسس الشرعية والتاريخية

       1مفهوم إمارة المؤمنين ومشروعيتها وتاريخها بالمغرب

إمارة المؤمنين تعني أن رئيس الدولة يدير شؤون الدين وشؤون الدنيا، وهي النظام الأصلي في الإسلام على هدي النبوة، وأول من سمي من الناحية التاريخية بها هو خليفة الرسول صلى الله عليه وسلم الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه[1].

وتقوم مشروعية إمارة المؤمنين في المملكة المغربية على عقد مكتوب يسمى “البيعة”. وأول بيعة (تعاقد) على واجبات الأمير والتزامات الأمة هي “البيعة التي أعطاها المسلمون الأولون للرسول صلى الله عليه وسلم[2]. في المغرب ومع بداية الأسرة الملكية الأولى في العهد الإسلامي بهذا البلد، يتولى الحكم الملك أو السلطان أو أمير المؤمنين على أساس “عقد البيعة”. أما وثيقة البيعة فيكتبها العلماء ويوقعها أعلام الفئات المختلفة في الأمة والمجتمع، وهم الشرفاء والعلماء وشيوخ زوايا التصوف ورؤساء الجيش وأعيان التجار وأمناء أصحاب الحرف، وبهذا العدد الوفير يعطي الموقعون المشروعية للحاكم الجديد بصفته أميرا للمؤمنين، ويلتزمون له بالولاء في المنشط والمكره، ويلتزم أمير المؤمنين للأمة بما يسمى عند علماء الشريعة في الإسلام بالكليات الشرعية التي يتحمل أمير المؤمنين مسؤولية الدفاع عنها والقيام بها أحسن قيام، حماية للأمة وضمانا لسكينتها واستقرارها.

وتشمل هذه الالتزامات نفس القواعد الكبرى التي يضمنها الدستور في العصر الحديث، لذلك لم يجد المغرب تنافيا بين حياته السياسية بمقتضى البيعة وحياته بمقتضى الدستور المغربي الذي نقرأ في الفصلين 41 و42 منه بخصوص إمارة المؤمنين ما يلي:

الفصل 41: الملك أمير المؤمنين وحامي حمى الملة والدين والضامن لحرية ممارسة الشؤون الدينية، ويرأس أمير المؤمنين المجلس العلمي الأعلى الذي يتولى دراسة القضايا التي يعرضها عليه. يعتبر هذا المجلس الجهة الوحيدة المؤهلة لإصدار الفتاوى التي تعتمد رسميا في شأن المسائل المحالة عليه استنادا إلى مبادئ وأحكام الدين الإسلامي الحنيف ومقاصده السمحة.

الفصل 42: الملك (أمير المؤمنين) رئيس الدولة وممثلها الأسمى ورمز وحدة الأمة وضامن دوام الدولة واستمرارها والحكم الأسمى بين مؤسساتها.

تبعا لما سبق، نجد أنه عبر تاريخ المغرب وإلى وقتنا هذا تتجدد البيعة لأمير المؤمنين كل أسبوع من خلال دعاء الخطباء له في المساجد يوم الجمعة، ومن المعلوم أنه في كل عام وعلى توالي السنين، تجرى مراسيم تجديد البيعة للسلطان محمد السادس في اليوم المحدد لها وهو اليوم الثاني من عيد العرش، أي يوم 31 يوليوز الذي يتوافد فيه المنتخبون من جميع جهات المملكة لأداء هذا الواجب كما كان يؤديه أسلافهم من أعيان المجتمع قبلهم، وتجدر الإشارة هنا إلى أن عددا غير قليل من وثائق البيعة محفوظة في الأرشيف الملكي، نشرت مجموعة منها مؤخرا، يرجع تاريخ بعضها إلى ما قبل قيام الدولة العلوية الذي يؤرخ له بحوالي 1668م.

2- إمارة المؤمنين في المغرب تخليد للسنة النبوية الشريفة في الحكم

تؤكد الكثير من المصادر أن الأسرة العلوية تنحدر من السلالة النبوية الشريفة التي ينتهي نسبها إلى الرسول الأعظم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم[3]، ولذلك فإن أمير المؤمنين محمد السادس أعز الله أمره ملك المغرب يعتبر سبط نبينا الكريم عليه أفضل الصلوات وأزكى التسليم، ويسوس البلاد ويحكمها وفقا لسنته المستمدة أحكامها وتعاليمها من القرآن الكريم، كتاب الله تبارك وتعالى.

ومن تجليات تمسك أمير المؤمنين صاحب الجلالة الملك محمد السادس حفظه الله بسنة جده النبي محمد عليه الصلاة والسلام، الاقتداء في مشروعية حكمه للبلاد بمفهوم البيعة وأحكامها الشرعية ومقاصدها. فإذا كانت بيعة الرضوان[4] التي شكلت تعاقدا متينا بين الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته في السنة السادسة للهجرة قد ساهمت في نجاح الدعوة الإسلامية وتأسيس حكم إسلامي بعد ذلك، فإن ملك المغرب يعتبر بيعة الشعب المغربي له أمانة في عنقه للحفاظ على وحدة البلاد واستقرارها وكرامتها، كما ينص على ذلك الدستور المغربي، ولا يمكن تفسير هذا الالتحام التاريخي بين الملك والشعب في السراء والضراء إلا بإيمان الأمة المغربية إيمانا راسخا بأن أميرهم يستمد مشروعية حكمه من كتاب الله وسنة رسوله، وهذا يعني أنه يخاف الله، ولذلك فإنهم لا يعصون له أمرا، مهما كانت الشدائد والمواقف التي تمتحن صدق المشاعر من كذبها بين الحاكم والمحكوم. وفي هذا الصدد، تخبرنا الشهادات التاريخية أن العواصف التي كانت تهدد وحدة المغرب واستقراره لم تزد العلاقة بين الشعب والعرش إلا متانة وتعلقا، بحيث شكّلا ثورة متجددة بين الملك ورعيته، خيبت آمال كل المغرضين والمتربصين.

وفي موضوع البيعة التي نحن بصدد الحديث عنها، يقول مولانا الحسن الثاني طيب الله ثراه: “المغاربة يبايعون ملكهم منذ التاريخ القديم، منذ المولى إدريس على الكيفية الإسلامية المشروعة المعترف بها أيام النبي صلى الله عليه وسلم، يبايعون ملكهم بيعة الرضوان، ولكن مقابل تلك البيعة، فإن الملك كذلك يبايع في شكله المغاربة، وذلك حينما يتعهد بضمان حقوقهم، وأول حق عند المغاربة هو الاستمرار في مغربيتهم[5].

ومما لا شك فيه، أن مقولة مولانا الملك الحسن الثاني رحمه الله: “إن أول حق (وأهمه) عند المغاربة هو الاستمرار في مغربيتهم” يقصد بها استمرار المغاربة في التشبث بالثوابت الدينية التي تمذهبوا بها، عبر تاريخهم الإسلامي، وعضوا عليها بالنواجذ باعتبارها طوق نجاة، خصوصا في ظل حكم الدولة العلوية الشريفة، وأبرز هذه الثوابت المشكلة لهويتهم الدينية[6] المذهب المالكي، والعقيدة الأشعرية والتصوف السني الجُنيدي، وهي ثوابت يؤطرها كتاب الله وسنة رسوله، وتسهر عليها وترعاها وتعمل بمقتضياتها إمارة المؤمنين باعتبارها عامل وحدة تجمع أهل عقيدة الإيمان، وتسمح لهم بالارتقاء إلى مراتب الإحسان.

وبناء على ما سبق، فقد استمرت إمارة المؤمنين منذ نشأة دولة الأشراف العلويين، في القيام بواجب حفظ الدين والملة على الأصول التي أجمع عليها السلف الصالح، وبيان سبل الهدى والخير، وتحقيق العدل، وتقديم النصح، وإرشاد الناس للسير على المحجة البيضاء، وبذلت من أجل ذلك جهودا معتبرة، تبليغا وتعليما وإرشادا ونشرا للخير.

IIمظاهر التجديد والابتكار لدى إمارة المؤمنين

من أجل تفصيل القول في مضامين هذا المحور، لابد من تسليط الضوء على أمرين اثنين مترابطين ومتلازمين، الأمر الأول له صلة بالتوجيهات والتنبيهات الملكية، للمنظومة المشرفة مباشرة على تدبير شؤون البلاد من حكومة وأحزاب سياسية ومنتخبين بلهجة صارمة، وروح مفعمة بالجدية والرغبة في استدراك ما فات من تهاون وتأخر في إنجاز التنمية الشاملة المنشودة، بإسعاد شعبه الذي يريد بصدق مواصلة الكفاح مع العرش في تلاحم واستبسال مستمرين، كما تعاهدا على ذلك منذ نفي محمد الخامس طيب الله ثراه يوم 20 غشت 1953م وهو النفي الذي دبرته الدولة المستعمرة والذي أشعل فتيل ثورة الملك والشعب. وتعتبر هذه التوجيهات والخطوات السياسية الملكية الجريئة، بما انطوت عليه من فاعلية وواقعية، وقرب من نبض الشعب، وتتبع حثيث للمشاريع والبرامج والاستحقاقات، ورغبة في الانفتاح على الحداثة مع التمسك في الوقت نفسه بقيم البلاد وثوابها، تعتبر كلها أموراً تجعل من إمارة المؤمنين المجسدة في ملك البلاد محمد السادس نصره الله القلب النابض الذي يحرك ثورة جديدة بمعية شعبه، شعارها التجديد والابتكار والتعبئة الشاملة من أجل خلق مغرب جديد يعيش شعبه في كنف العزة والكرامة.

أما الأمر الثاني المتفرع عن هذا المحور، فسنعمل من خلاله على إعطاء جرد لبعض المنجزات المترتبة عن قرارات وتوجيهات أمير المؤمنين السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

1- بعض توجيهات أمير المؤمنين وقراراته من خلال خطبه السامية[7]

منذ السنوات الأولى لتولي أمير المؤمنين حكم المغرب، نستشف من خطبه والعبارات الواردة فيها، الهم الذي يحمله جلالته من أجل خدمة بلده وإرضاء شعبه، بداية بالوحدة الترابية للبلاد، القضية الوطنية الأولى، ومرورا بقضايا البناء الاقتصادي الممهدة للتنمية الشاملة، وانتهاء بتنبيه المسؤولين الحكوميين والهيئات البرلمانية والحزبية، من أجل التحلي بالمزيد من اليقظة والحس بالمسؤولية الجسيمة الملقاة على عاتقهم، وهم يؤدون مهامهم.

ونقـدم فيما يلي بعضا من هذه التوجيهـات النيرة الواردة على سبيل المثال في خطاب العرش لسنة 2003م.

لقد استعرض جلالته في هذا الخطاب عددا غير قليل من القضايا التي تشغل باله بخصوص الوحدة الترابية للمملكة والقضايا الاجتماعية التي تتطلب مجهودات استثنائية لرفع التحديات التي تطرحها، مثل:

  • الوحدة الترابية.
  • أحياء الصفيح والبناء العشوائي.
  • التعليم والعولمة.
  • الحداثة.
  • الإدارة الفعالة والقضاء العادل.
  • التضامن العربي وقضية فلسطين.
  • الاتحاد المغاربي.
  • التحام العرش والشعب.

ومن بين هذه المواضيع المطروحة في الخطاب السامي لجلالته، سنركز على وجه الخصوص، على ما هو اجتماعي واقتصادي له صلة وطيدة بالأوضاع العامة الهشة التي تعيشها ساكنة البلاد ومسؤولية السلطات الحكومية والأحزاب والبرلمان في إنجاز المشاريع الملكية المسطرة أو في إفشالها، كما نفهم ذلك في ثنايا مضامين الخطاب الملكي ذات النبرات الصارمة، القريبة من الغضب أحيانا بسبب ما يقف عليه أمير المؤمنين حفظه الله من تقصير وإهمال في أداء الواجب، وفي هذا الصدد يقول جلالته: “… إن التزامي بالمصالح العليا للوطن والمواطنين وما يقتضيه من حرص على استمرار تحقيق مشاريع الإصلاح الكبرى، يجعلني أقول باسمك إنني لن أقبل تأخير إنجاز أي إصلاح وطني بدعوى انتظار إجراء انتخابات أو ترضية فئة أو هيئة خارجة عن الإجماع أو التوافق أو الأغلبية[8].

وبنفس الصرامة، تحدث جلالته عن موضوع:

محاربة السكن غير اللائق: بقوله في نفس الخطاب: “وإذا اقتصرنا على مجال محاربة السكن غير اللائق، ومع إدراكـنا لمدى الصعوبات، وتقديرنا للمشاريع المحققة أو المبرمجة، فإننا كنا ننتظر أن تكون حصيلة المنجزات في مستوى جسامة التحديات. لقد دق خطابنا لـ 20 غشت 2001م ناقوس الخطر، منبّها على خطورة انتشار السكن الصفيحي والعشوائي لما له من أثر سلبي على كرامة المواطن، وما يشكله من تهديد لتماسك النسيج الاجتماعي، داعيا إلى اعتماد برنامج وطني تضامني مضبوط المسؤوليات. وبعد سنين وبدل أن أعاين خلال زيارتي التفقدية لأقاليم المملكة القضاء التدريجي على السكن الصفيحي، ألاحظ بمرارة انتشاره في عدة مدن، بل إن أحياء صفيحية قد ظهرت وتضخمت لتصبح مدنا عشوائية قائمة بالذات. ومثل هذا البناء العشوائي لم ينزل من السماء ولم ينتشر في الأرض بين عشية وضحاها، بل إن الكل مسؤول عنه، وذلك انطلاقا من المواطن الذي يدفع اليوم رشوة لمسؤول قد يأتي غدا بالجرافة ليهدم “برّاكته” أمامه، إلى مختلف السلطات العمومية والجماعات المحلية المتهاونة في محاربة انتشار مدن الصفيح، بدل التشجيع على توفير السكن اللائق[9].

ويضيف جلالته متسائلا: “فهل يجوز والحالة هذه اعتبار ذلك قدرا محتوما؟“.

  • موضوع التعليم والابتكار والحداثة: إدراكا منه لأهمية التعليم في تنشئة الفرد الصالح للمجتمع، يواصل جلالته قائلا: “وإذا كان تحرير كل المغاربة من الفقر… يتطلب جهودا لعدة أجيال، فإن بالإمكان تحريرهم في أمد منظور من الجهل والأمية الفكرية والانغلاق، وغيرها من الفقر المعنوي الذي هو أسوأ أحوال التخلف، ولن يتأتى ذلك إلا بالإصلاح النوعي لنظام التعليم وخصوصا البرامج والمناهج التي يتعين تنصيب اللجنة الدائمة الخاصة بها (…) من خلال الانكباب على تجديد هذه البرامج والمناهج ابتداء من الدخول المدرسي لسنة 2003م…“، إلى أن يقول: “ونظرا لأهمية الجوانب التربوية والثقافية في النهضة الشاملة فإننا نؤكد على الدور الحيوي للجامعة والنخبة الفكرية الوطنية في ترسيخ الحداثة باعتبارها قيمة مضافة لرصيدنا الحضاري في تنشئة شبابنا على التشبع بالوطنية الملتزمة (…)، ولأن بلدنا يعرف انتقالا شموليا يتطلب تعزيز قدرات الرصد والتدبير والتوقع، فقد قررنا إحداث معهد ملكي للدراسات الاستراتيجية، ينكب على هذه المهام الحيوية للتحكم والتفاعل مع التحولات العميقة الداخلية والخارجية[10].
  • موضوع التنمية الاقتصادية: التنمية الاقتصادية في منظور جلالته رهينة بإدارة فعالة وقضاء عادل، مع اقتصاد منتج للثروات الموفرة لفرص الشغل النافع، وهو أمر لن تقوم له قائمة في وجود ديمقراطية هشة. ومن أجل الارتقاء إلى المستوى المطلوب، يرى جلالته: “أننا مطالبون ببذل المزيد من الجهود لإنجاز الإصلاحات اللازمة في هذا الشأن في إطار اعتماد مقاربة شمولية تتبوأ التنمية الاقتصادية مكان الصدارة فيها، من خلال مشاريع استراتيجية مثل المشروع الكبير لطنجة المتوسط، مع العمل على تحرير الاقتصاد وانفتاحه وتأهيله لكسب رهانات الشراكة ورفع تحديات الإنتاجية والتنافسية والتفاعل الإيجابي مع العولمة[11].
  • موضوع النموذج التنموي: ورد الحديث عن هذا الموضوع ضمن خطاب العرش لسنة 2019م، حيث يذكر جلالته أنه “من منطلق الوضوح والموضوعية، فإن ما يؤثر على هذه الحصيلة الإيجابية هو أن آثار هذا التقدم وهذه المنجزات لم تشمل بما يكفي، مع الأسف، جميع فئات المجتمع المغربي، ذلك أن بعض المواطنين قد لا يلـمسون مباشرة تأثيرها في تحسن ظروف عيشهم وتلبية حاجياتهم اليومية، خاصة مجال الخدمات الاجتماعية الأساسية والحد من الفوارق وتعزيز الطبقة الوسطى[12].

وبعد أن عبر جلالته عن شعوره بالحسرة والألم لوجود فئة من المغاربة، مهما كانت قليلة، تعيش في ظروف صعبة من الفقر أو الحاجة، انتقل لإعطاء رأيه في النموذج التنموي السائد، فأكد أنه “نموذج أبان خلال السنوات الأخيرة عن عدم قدرته على تلبية الحاجيات المتزايدة لفئة من المواطنين وعلى الحد من الفوارق الاجتماعية ومن التفاوتات المجالية، وهو ما دفعنا لمراجعته وتحيينه. وفي هذا الإطار قررت إحداث اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي التي سنقوم في الدخول المقبل إن شاء الله، بتنصيبها[13].

ومن بين القضايا الأخرى التي تطرق لها العاهل المغربي في خطبه يمكن ذكر:

  • مدونة الأسرة وأهميتها.
  • الانتخابات وأهمية المشاركة فيها.
  • تسوية مسألة اللاجئين والدعوة لحسن معاملتهم.
  • مواجهة التطرف مع تعزيز قيم الانفتاح والتسامح.
  • مسألة الزلزال الذي ضرب البلاد وقيم التضامن التي عبر عنها المغاربة.
  • تعزيز البعد الإقليمي للمملكة.
  • تأهيل الواجهة الأطلسية للصحراء المغربية.
  • القضية الفلسطينية.
  • البعد المغاربي.

هذه وغيرها كلها مواضيع نالت وتنال من اهتمام أمير المؤمنين أعز الله أمره بشكل عام، لكن القضايا التي لا يـقبل التهاون فيها هي المرتبطة بالشأن المجتمعي مباشرة في سائر ربوع البلاد، والتي ما فتئ يوجه بشأنها، ويذكر ويحذر بكل ما أوتي من قوة، على غرار ما سطرناه في الفقرات السابقة، لأنه يعتبر ذلك من أوجب واجباته الدينية والدستورية، ومن شدة حرصه على رؤية المشاريع المسطرة برعايته تؤتي أكلها ويقطف المغاربة ثمارها، نجده يلح ويؤكد بلهجة صارمة ومحذرة على ما يبدو، عندما يقول:

“… وقد اكتفيت لحد الآن بتوجيه السلطات العمومية والمنتخبة، كل في نطاق اختصاصه لينهضوا بمهامهم كاملة عن قرب؛ لأنه لا يمكن لملك البلاد أن يقوم بعمل الوزير أو العامل أو رئيس جماعة محلية، ولأني حريص على ممارسة كل سلطة لصلاحيتها بروح المسؤولية والفعالية، ونهوضا بالأمانة العظمى فإنني لن أسمح بالتهاون في القيام بالشأن العام، بحيث سأحرص على تفعيل كل أشكال المراقبة الصارمة والمحاسبة الحازمة؛ لأنه إذا كان كل منا راعيا ومسؤولا عن رعيته، فإن خديمك الأول راع لهذه الأمة ومؤتمن على شؤونها العامة”[14].

2- جرد لأهم المنجزات والمشاريع الشاهدة على عبقرية أمير المؤمنين حفظه الله

مما لا شك فيه أن التأطير والمواكبة الملكية لكل الأوراش الحكومية بكل انتظام ودقة، منذ السنوات الأولى لاعتلائه عرش أجداده الكرام، كما سبقت الإشارة إلى ذلك أعطت أكلها، وصار الكل يتحدث عنها في داخل البلاد وخارجها، في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، علاوة على المجلات والصحف المتخصصة، الورقية منها والإلكترونية، وهو ما نتج عنه تصاعد في الاستثمارات الأجنبية والوطنية داخل المغرب. وبما أن المجال لا يسمح بالتفصيل في كل المشاريع والإنجازات المحققة، فإننا نكتفي هنا بإعطاء جرد عام عن ذلك.

إذا كان من السابق لأوانه الخوض فيما سيتمخض عنه النموذج التنموي الجديد، فإنه لا يمكن لنا إلا تثمين الدينامية الإصلاحية والتنموية التي انخرط فيها المغرب منذ بداية العهد الجديد، والتنويه بالنفس التنموي الطويل والعميق لأمير المؤمنين صاحب الجلالة الملك محمد السادس حفظه الله الذي برزت معالمه الأولى بإطلاق “المبادرة الوطنية للتنمية البشرية” سنة 2005م، مرورا بعدد من المحطات الكبرى من قبيل[15]:

  • بناء ميناء طنجة المتوسط.
  • مشروع بناء الناظور غرب المتوسط.
  • مشروع الحسيمة منارة المتوسط.
  • إعطاء الانطلاقة لمشروع “القطار الفائق السرعة”.
  • توسيع دائرة شبكة الطرق السيارة والطرق الوطنية.
  • إعطاء انطلاقة واحدة من أكبر المشاريع الطرقية في إفريقيا والعالم العربي، ويتعلق الأمر بـ “الطريق الرابط بين تزنيت والداخلة” الذي يعد بوابة المغرب وأوروبا نحو الأسواق الإفريقية الواعدة.
  • المشاريع المرتبطة بالإقلاع الصناعي التي جعلت من المغرب منصة عالمية لعدد من الصناعات وعلى رأسها السيارات والطيران.
  • الخطط والاستراتيجيات المتعلقة بتثمين الموارد الطبيعية الوطنية من قبيل برنامج “الجيل الأخضر”.
  • استراتيجية غابات المغرب “البرنامج الوطني للتزويد بالماء الشروب ومياه السقي”.
  • استراتيجية الارتقاء بقطاع التكوين المهني عبر “برنامج مدن المهن والكفاءات”.
  • المشاريع المرتبطة بالنموذج التنموي للصحراء المغربية مثل مشاريع بناء موانئ الداخلة و”أمهيريز” و”الكويرة” التي ستجعل المغرب قوة تجارية أطلسية ذات إشعاع إفريقي ودولي.
  • المشاريع الرائدة عالميا ذات الصلة بالطاقات البديلة وعلى رأسها محطة “نور ورزازات” للطاقة الشمسية التي تعد واحدة من أكبر محطات إنتاج الطاقة الشمسية في العالم[16].

وستبلغ الاستراتيجية التنموية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله مداها، من خلال إحداث “صندوق محمد السادس للاستثمار” الذي يعول عليه للنهوض بمستوى وقدرات الاقتصاد الوطني في ظل ما تعرض له من هزات بسبب جائحة كورونا، وخاصة فيما يتعلق بإطلاق مشروع “الحماية الاجتماعية” الذي يعد “ثورة ملكية اجتماعية بامتياز، رائدة في إفريقيا والعالم العربي”، ترمي إلى المضي قدما في اتجاه تمتيع جميع المغاربة بالحق في التغطية الصحية والحماية الاجتماعية في أفق سنة 2025م، ليتواصل قطار التنمية الشاملة بالدخول في صلب “نموذج تنموي جديد”، جاء بناء على رؤية ملكية متبصرة، تحكمه فيها الرغبة في تجاوز ما أبانت عنه الممارسة التنموية طيلة عقود من اختلالات وأعطاب ومشكلات اجتماعية عمقت بؤر التباينات المجالية والتفاوتات الاجتماعية بشكل توسعت معه دائرة الفقر واليأس والإحباط والإقصاء، وسط فئات اجتماعية عريضة[17].

وفي هذا الصدد، يخلص الباحث عزيز لعويسي إلى الإدلاء بالقناعة الآتية: “هي إذن هندسة ملكية متبصرة، جمعت وتجمع بشكل أنيق ورصين بين ثنائية “التنمية الشاملة” و”الدبلوماسية الناجعة، وبهذه الثنائية، تحول مغرب اليوم إلى “قوة إقليمية” بعمق إفريقي وحضور عربي وإشعاع واحترام دولي، في ظل اعتراف أمريكي تاريخي بمغربية الصحراء، وهذا التموقع الجديد… يقتضي التعبئة الجماعية، وتوحيد الجبهة الداخلية والالتفاف حول ثوابت الأمة المغربية ذات التاريخ العريق والحضارة الضاربة في القدم…”[18].

ومن الشهادات التي تحدثت عن الإنجازات العظيمة لأمير المؤمنين أيده الله، ما عبر عنه خبيران أكاديميان في الاقتصاد هما أحمد أزيرار والطيب أعيس.

يقول الأول: “إن التغيير الذي أحدثه الملك محمد السادس في 24 سنة من حكمه إلى حدود اليوم، هو تغيير عميق وشامل لجميع مناحي حياة المواطنين المغاربة، معددا أبرز تمظهرات التطور التنموي في الأبعاد الاجتماعية والإنسانية والحقوقية والسياسية والاقتصادية والدبلوماسية وكذا الرياضية“، مضيفا أن “وتيرة التغيير صارت متسارعة في السنوات الأخيرة، رغم مخلفات الجائحة الوبائية، وفي ظل المناخ العالمي المتدهور، متنبئا في الوقت نفسه بأنه من المنتظر تثبيت الاعتراف الأممي كاملا بأقاليمنا الجنوبية كجزء لا يتجزأ من الوطن، مع إيجاد الحلول الناجعة لمشكل الموارد المائية ولمعضلة البطالة[19].

أما الباحث الثاني (الطيب أعيس)، وهو محلل اقتصادي فتحدث عن “مستوى مرموق وصلته البنية التحتية للمغرب، مضيفا أنه تم الاشتغال كثيرا على تعميم الطرق والمسالك بمختلف أنواعها (سيارة، مزدوجة، سريعة) لفك العزلة عن كثير من المناطق المغربية، لاسيما النائية، كما أبرز أن المغرب صار ثاني دولة إفريقية من حيث جودة الطرق السيارة، وأصبح من الدول الرائدة في الحوض المتوسطي وكذا قاريا من حيث موانئ الحاويات، ضاربا المثل بأضخم مشروعين شرع في إنجازهما، هما ميناء الداخلة الأطلسي وميناء الناظور غرب المتوسط، دون إغفال ما تم إنجازه بتعليمات ملكية بخصوص تطوير المطارات والموانئ الموجودة، وإحداث بنيات جديدة في مختلف الجهات[20].

خـاتمة:

إن تاريخ المغرب حافل بالدروس والإنجازات التي تسهل على الدوام تجاوز الأزمات بفضل التلاحم الدائم بين العرش والشعب وبفضل تضحيات المغارية الأحرار، وهو ما شكل ويشكل ثورة متجددة ومستمرة بين القاعدة الجماهيرية وقيادتها المؤطرة بإمارة المؤمنين.

هذا التلاحم وذلك الإخلاص من قبل الشعب لقائده هو الذي جعل صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله يعطي بسخاء كل ما يملك من عبقرية في الحكامة والإبداع والابتكار والتجديد، من أجل إسعاد شعبه، موفقا في ذلك بين الأصالة والمعاصرة وبين الحداثة والموروث التاريخي الحضاري المغربي، مستمدا مشروعية حكمه مـن كتاب الله وسنة رسوله باعتبارهما مصدرين أساسيين لثـوابت الأمة وهـويتها الدينية.

وما المشاريع والمنجزات الجبارة التي تم عرض تفاصيلها في ثنايا هذا المقال سوى أكبر دليل على حسن صنيع أمير المؤمنين حفظه الله في التخطيط والتدبير والمراقبة والتنفيذ، من أجل ضمان واستمرار وتوطيد علاقة الثقة والتضامن والوفاء التي تجمع بين الراعي والرعية.

كما أن حجم هذه الحصيلة الاقتصادية والإنمائية المبهرة التي تمت وتتم في ظل تعبئة شاملة بشهادة العدو قبل الصديق، أسكتت الأفواه وأصابت عددا غير قليل من الأقلام بالوجوم، بحيث لم يعد التمسك بمؤسسة إمارة المؤمنين يقتصر على القوى المحافظة، بقدر ما أصبح يتعداها إلى قطاع عريض من القوى التقدمية التي صارت تنظر إلى الملكية في صلتها العريضة بإمارة المؤمنين، باعتبارها مكتسبا تاريخيا لضمان وحدة الجماعة الوطنية، وكفالة الحقوق والحريات للمسلمين وغير المسلمين على حد سواء[21].

وأخيرا، لا نبالغ إذا قلنا إن حجم المنجزات الملكية وقيمتها وأثرها التنموي في الأوساط الاجتماعية يُعد ثورة تنموية كبرى، من شأنها ترصيع قلادة منجزات صاحب الجلالة الملك محمد السادس، أعز الله أمره، الذي جمع بهذا الإنجاز المجد من أطرافه.


[1] – أبو عمر يوسف بن عبد الله النمري القرطبي (ت 463 هـ)، الاستيعاب في معرفة الأصحاب، تحقيق: علي محمد البجاوي، دار الجليل، بيروت، ط 1، سنة 1992م، ج3، ص:1151.

[2] – من أجل تفاصيل أكثر في الموضوع، يمكن الرجوع إلى:

حسن عبد العزيز غوردو، إمارة المؤمنين، التاريخ السياسي والثقافة الدستورية، دورة كان التاريخية، عدد 14 دجنبر 2011م، ص 129 إلى 156.

[3] – أحمد بن خالد الناصري، الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 1971م، المجلد الثالث، ص 3.

[4] – هي التي ورد فيها قول الله تبارك وتعالى: ﴿لَّقَدْ رَضِيَ اَ۬للَّهُ عَنِ اِ۬لْمُومِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ اَ۬لشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِے قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ اَ۬لسَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَٰبَهُمْ فَتْحاٗ قَرِيباٗ﴾ (الفتح: 18).

[5] – خطاب المسيرة الخضراء، 6 نونبر 1981م.

[6] – يمكن الرجوع في هذا الصدد إلى أعمال الندوة العلمية الدولية في موضوع: “المدرسة المالكية الفاسية، أصالة وامتداد”، المنعقدة بفاس يومي 20-21 مارس 2007م. منشورات المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة إسيسكو، 1431هـ/2010م، سيما مداخلة الدكتور عباس الجراري رحمه الله تحت عنوان: “من أسباب انتشار المذهب المالكي بالمغرب”، ص:47.

[7] – من الأعمال التي أولت عناية كبيرة لإمارة المؤمنين والمجهودات الجبارة التي يبذلها أمير المؤمنين صاحب الجلالة الملك محمد السادس حفظه الله في شتى المجالات الاقتصادية والاجتماعية يمكن ذكر:

– Mohamed Jelmad, le commandeur des croyants: Visions Renouvelées et Perspectives prometteuses, Imprimerie Attawfik, Publication : OULEMAG, 2023, 157 pages.

[8] – خطاب العرش لسنة 2003م.

[9] – نفسه.

[10] – خطاب العرش لسنة 2003م.

[11] – نفسه.

[12] – خطاب العرش لسنة 2003م.

[13] – نفسه.

[14] – خطاب العرش لسنة 2003م.

[15] – اعتمدت في هذه المعطيات على العمل القيم الذي أنجزه الباحث عزيز لعويسي تحت عنوان: “محمد السادس مهندس التنمية والدبلوماسية”، المنشور بجريدة السفير، الموقع الإلكتروني: هسبريس، بتاريخ 26 ماي 2021م.

[16] – “محمد السادس مهندس التنمية والدبلوماسية”، المنشور بجريدة السفير، الموقع الإلكتروني: هسبريس، بتاريخ 26 ماي 2021م.

[17] – “محمد السادس مهندس التنمية والدبلوماسية”، المنشور بجريدة السفير، الموقع الإلكتروني: هسبريس، بتاريخ 26 ماي 2021م.

[18] – نفسه.

[19] – ضمن مقال في موضوع: نهضة اقتصادية شاملة بوتيرة متسارعة، المنشور بموقع هسبرس الإلكتروني، بتاريخ 30 يوليوز 2023م.

[20] – ضمن مقال في موضوع: نهضة اقتصادية شاملة بوتيرة متسارعة، المنشور بموقع هسبرس الإلكتروني، بتاريخ 30 يوليوز 2023م.

[21] – عبد السلام طويل، إمارة المؤمنين، الرائد، منصة علمية إلكترونية (الرابطة المحمدية للعلماء).