الإمامة العظمى في الفقه الإسلامي، قاعدة: “تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة” نموذجا



الإمامة العظمى في الفقه الإسلامي، قاعدة: “تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة” نموذجا

ذ. إدريس الزعري المباركي

أستاذ التعليم العالي بكلية الشريعة بفاس

وعضو المجلس العلمي المحلي لفاس

 

تمهيد

يعتبر الفقه السياسي الإسلامي فقها متميزا عن غيره من النظم السياسية؛ فهو يجمع بين الأحكام العامة الثابتة والأحكام الاجتهادية المتجددة التي تكفل تدبير شؤون الدولة الإسلامية في مختلف الأزمنة والأمكنة، غايته رعاية مصالح الناس العامة، وتحقيق العدل والحرية والكرامة في أعلى صورها وأبهى مظاهرها وتجلياتها.

وإذا كانت شريعة الإسلام قد عنيت بشؤون الآخرة مثلما عنيت بشؤون الدنيا، فقد كان من البدهي أن تعنى بشؤون الدولة إلى جانب عنايتها بشؤون الدين، وكان من البدهي تبعا لذلك أن تعنى بإقامة دولة وحكومة تسهر على تنفيذ تلك الشريعة. “فليس منطقيا أن يكون للإسلام شريعة، ثم لا تكون له حكومة تنفذ تلك الشريعة، وتحمل الراعي والرعية على العمل بها”.

وانطلاقا من الأهمية التي حظيت وتحظى بها القواعد الفقهية في مجالي الفقه والإفتاء، واعتبارا للمكانة الرفيعة التي تتبوأها في عمليات الاجتهاد والتخريج والإلحاق، تأتي المشاركة في هذه النافذة العلمية المباركة، ببيان قاعدة هي من أهم قواعد الفقه السياسي التي تزدان بها مؤلفات علمائنا في هذا الفن الجليل، والتي تحدد معالم سلوك الأئمة والحكام والولاة ومن دونهم، وتضبط تصرفات كل من يتولى أو يرعى أمراً من أمور المسلمين في الدولة الإسلامية … إنها قاعدة: ” تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة “، وذلك من خلال تحديد مدلولها، وإبراز أهميتها، وتجلية أصولها … بالقدر الذي يتيح للدارسين والباحثين والمهتمين الاطلاع على ما تزخر به هذه القاعدة من المعاني والحِكم والفوائد…

فنقول وبالله التوفيق:

1- التعريف بالقاعدة وبيان أهميتها

تعد قاعدة “تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة” من أهم قواعد الفقه الإسلامي وأعمقها جذورا في فقه السياسة الشرعية وتنظيم الدولة الإسلامية، وهي قاعدة عامة ومطردة تنبطق وتسري على كل من يلي أمرا من أمور المسلمين، وتضبط تصرفات كل من يرعى ولاية من ولاياتهم الدينية والدنيوية.

مفاد هذه القاعدة أن نفاذ تصرف الإمام أو الحاكم على رعيته متوقف على وجود المصلحة الشرعية المعتبرة في تصرفه، سواء أكان تصرفا دينيا أو دنيويا. فإن تحققت مصالح الأمة فيما استرعي عليه وجب عليها تنفيذه…

وتتجلى أهمية هاته القاعدة بصفة خاصة في كونها العمود الفقري لإرساء دعائم وأسس الدولة الإسلامية؛ فللحفاظ على السير الطبيعي للمجتمع الإسلامي لابد من تنصيب من يعمل على جلب مصالح العباد، ودفع الأذى والشر عنهم في كل الولايات بدْءا بالإمام أو الخليفة، وانتهاء بمن دونه ممن يتولى مهمة أو مسؤولية دينية أو دنيوية.

ومن دون اختيار الأنسب والأصلح لحفظ هذه المصالح قد يختل التوازن وتضيع الأمانات، ويتفشى الظلم ويسود الاستبداد، ولا تتحقق مقاصد الشريعة.

وقبل الحديث عن الأصول التي استمدت منها قاعدة:” تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة ” نشير إلى ثلاثة أمور ذات تعلق بما نحن فيه:

الأمر الأول: أن القواعد الفقهية باعتبار مصادرها نوعان:

ـ أحدهما ورد بنصّه في آي القرآن الكريم، أو في أحاديث سيد المرسلين عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم؛ ذلكم أن نصوص الوحي ـ بنوعيه ـ قد تضمنت كثيرا من المبادئ العامة والقواعد الكلية الضابطة لأفعال المكلفين في شتّى مناحي الحياة (1)، اهتدى بهديها العلماء في وضع التفاصيل التي تكفل سد حاجات المجتمع الإنساني، وتضمن صلاحية الشريعة الإسلامية لكل زمان ومكان.

ـ والنوع الثاني: استنبطه الفقهاء المجتهدون من دلالات آيات وأحاديث الأحكام ومقاصدها الشرعية (2). وقواعد هذا النوع كثيرة ومتعددة يصعب حصرها أو تتبعها. وقد اهتم الزركشي ﴿ م 794 هـ ﴾ والسيوطي ﴿ م 911 هـ ﴾ وابن نجيم ﴿ م 970 هـ ﴾ وغيرهم بالتدليل على القاعدة، حيث ما أمكن ذلك من نصوص الشريعة (3).

وسواء أكانت قواعد هذا النوع الأخير في أصلها مستمدة من دلالات النصوص ومقاصدها الشرعية، أو كانت قولا مأثورا عن أحد الصحابة أو التابعين أو الأئمة المجتهدين جرى بعد ذلك مجرى القواعد، فإنك لا تكاد تجد قاعدة منها إلا ولها أصل أو مستند من كتاب الله تعالى أو من سنة رسوله عليه السلام.

الأمر الثاني: أن القواعد الفقهية باعتبار استقلالها أو عدمه صنفان:

قواعد أصلية أو أساسية، وقواعد متفرعة من تلك القواعد الأصلية . (4)

والمراد بالقواعد الفقهية الأصلية: تلك التي تعد كل واحدة منها أصلا مستقلا غير متفرع عن قاعدة أعم منه، والتي يتخرّج عليها ما لا ينحصر من الجزئيات والفروع العملية. فالقواعد الخمس الأمهات ـ مثلا ـ التي يقال إن علم الفقه مبني عليها وهي: لا ضرر ولا ضرار، العادة محكمة، المشقة تجلب التيسير، اليقين لا يزول بالشك، الأمور بمقاصدها (5)، هذه القواعد عبارة عن أسس فقهية كبرى، كل واحدة منها يمكن أن تستقل دراستها بمؤلف خاص لما تتسم به صيغها من تجريد وعموم، ومضامينها من اتساع وشمول.

أما الصنف الثاني فهو القواعد المتفرعة عن تلكم القواعد الأصلية، فهي من سلالة أمهات القواعد وذريتها، عنها تفرّعت ومنها تولّدت وتنسّلت.

فقاعدة ” لا ضرر ولا ضرار ” ـ على سبيل المثال ـ ركن من أركان الشريعة، وأساس لمنع الفعل الضار، وسند لمبدأ جلب المصالح ودرء المفاسد، بنى الفقهاء عليها أحكاما لا تحصى من شتى الأبواب الفقهية (6)، وفرعوا عنها عددا من القواعد منها :

ـ الضرر يدفع بقدر الإمكان.

ـ الضرر يزال.

ـ الضرر لا يزال بمثله.

ـ الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف.

ـ يختار أهون الشرين.

ـ إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضررا بارتكاب أخفهما.

ـ يحتمل الضرر الخاص لدفع ضرر عام.

ـ درء المفاسد أولى من جلب المصالح .

ــ الضرر لا يكون قديما (7).

الأمر الثالث: هو أن القواعد الفقهية ـ باعتبار صيغها ـ متطورة العبارة غير ثابتة المبنى؛ ذلكم أن القواعد الفقهية لم توضع كلها جملة واحدة في وقت معين على يد فئة معينة مثلما توضع النصوص القانونية، وإنما تكونت مفاهيمها واكـتملت صيغها تدريجيا عبر المراحل التي مرّ بها الفقـه الإسلامي منذ نشأته في عـهد الرسالة، ومرورا بعصور ازدهاره ونهضته على أيدي أئمته وجهابذته.

فإذا استثنينا القواعد المنصوص عليها أو التي وردت بنصها، فقد لا يسهل تتبع كل قاعدة من القواعد الفقهية لمعرفة أول قائل أو واضع لها.

بعد هذا البيان نقول والله المستعان:

2-قاعدة: “تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة” في مصنفات الأعلام

إن قاعدة: “تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة” وإن لم تك معدودة من أمهات القواعد الفقهية؛ لأنها أقل تجريدا منها، فهي قاعدة كلية مستقلة بذاتها غير متفرعة عن قاعدة أخرى أعمّ أو أشمل منها؛ فقد عدّها جلال الدين السيوطي وزين الدين ابن نُجيْم في أشباههما من القواعد الكلية التي يتخرج عليها ما لا ينحصر من الصور الجزئية (8).

وتشير بعض المصادر إلى أن هذه القاعدة قد وردت على لسان بعض الأئمة الأعلام: فقد ورد في أشباه السيوطي أن الإمام الشافعي ﴿ م 204 هـ ﴾ رحمه الله تعالى نص على هذه القاعدة بقوله: « منزلة الإمام من الرعية منزلة الولي من اليتيم ». وأصل ذلك ما أخرجه سعيد بن منصور في سننه عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قال: «إني أنزلت نفسي من مال الله منزلة مال اليتيم؛ إن احتجت أخذت منه، فإذا أيسرت رددته، فإن استغنيت استعففت» (9).

ويذكر ابن نجيم أن الإمام أبا يوسف ﴿ م 183 هـ ﴾ رحمه الله قد صرّح بهذه القاعدة في كتاب الخراج في مواضع (10)، ثم ينقل عنه قوله: “بعث عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه عمار بن ياسر على الصلاة والحرب، وبعث عبد الله بن مسعود على القضاء وبيت المال، وبعث عثمان بن حنيف على مساحة الأرضين، وجعل بينهم شاة كل يوم في بيت المال؛ شطرها وبطنها لعمار، وربعها لعبد الله ابن مسعود، وربعها الآخر لعثمان بن حنيف: وقال إني أنزلت نفسي وإياكم من هذا المال بمنزلة ولي اليتيم فإن الله تبارك وتعالى قال: « ومن كان غنيا فليستعفف، ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف » (11) والله ما أرى أرضا يؤخذ منها شاة في كل يوم إلا استسرع خرابها» (12).

وإذا كانت المصادر لا تسعفنا في التحقق من أول من نطق بهذه القاعدة أو نصّ على ما يفيد معناها من الفقهاء الأعلام، فإن ما بأيدينا من كتب القواعد يُفيد أن قاعدتنا قد عرفت عبر مسارها التاريخي ـ على غرار مثيلاتها من القواعد ـ تطورا في مبناها قبل أن تستقرّ صياغتها مع كل من الزركشي ﴿م 794 هـ﴾ والسيوطي ﴿ م 911 هـ ﴾ وابن نجيم ﴿ م 970 هـ ﴾ (13) على العبارة المتداولة المشتهرة على الألسنة اليوم: ” تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة “.

وهكذا فإن المتتبع لألفاظ القاعدة يجدها قد وردت في مؤلفات علمائنا قبل الزركشي ومن سار على نهجه بعبارات متنوعة:

ـ فهذا تاج الدين السبكي ﴿م 771 هـ ﴾ يصوغ القاعدة في عبارة عامة رشيقة عبر عنها بقوله:” كل متصرف عن الغير فعليه أن يتصرف بالمصلحة” (14)، ثم يستطرد قائلا: «وفي وجه ـ حكاه الإمام، والغزالي والروياني ـ أن الواجب عدم المفسدة، فإذا استوت المصلحة والمفسدة لم يتصرف على الأول، ويتصرف على الثاني» فهذه الصيغة هي أعم الصيغ التي وردت في التعبير عن هذه القاعدة.

ـ وهذا شهاب الدين القرافي (15) المالكي ﴿ م 684 هـ ﴾ يعرض لهذه القاعدة في سياق بيانه الفرق الثالث والعشرين والمائتين بين قاعدة ما ينفذ من تصرفات الولاة والقضاة وبين قاعدة ما لا ينفذ من ذلك، بعبارة ضابطة لجميع التصرفات في جميع أصناف الولايات المأذون بها شرعا قائلا: «اعلم أن كل من ولي ولاية الخلافة فما دونها إلى الوصيّة لا يحلّ له أن يتصرف إلا بجلب مصلحة أو درء مفسدة» (16). ولعل القرافي قد أفاد في وضع هذه القاعدة من سابقيه؛ خاصة منهم أستاذه سلطان العلماء الإمام عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام السلمي الشافعي ﴿ م 660 هـ ﴾ الذي لازمه وأخذ عنه أكثر فنونه (17) فقد ضمّن الإمام عز الدين كتابه قواعد الأحكام فصلا في تصرف الولاة ونوابهم رسخ فيه مفهوم القاعدة بقوله: ” يتصرف الولاة ونوابهم بما ذكرنا من التصرفات بما هو الأصلح للمولى عليه درءا للضرر والفساد، وجلبا للنفع والرشاد، ولا يقتصر أحدهم على الصلاح مع القدرة على الأصلح، إلا أن يؤدي إلى مشقة شديدة … وكل تصرف جر فسادا أو دفع صلاحا فهو منهي عنه كإضاعة المال بغير فائدة، وإضرار الأمزجة بغير عائدة … فإن الشرع يحصل الأصلح بتفويت المصالح، كما يدرأ الأفسد بارتكاب المفاسد ” (18).

فهذه النماذج شاهدة للتطور الذي لحق هذه القاعدة قبل أن تستقرّ صياغتها ـ كما سلف الذكر ـ مع بدر الدين الزركشي في القرن الثامن الهجري.

3- من الأصول التي استمدت منها قاعدة: “تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة”

وإذا رجعنا إلى الأصول التي استمدت منها القاعدة بعباراتها المتنوعة، وحاولنا تلمس الأدلة الشرعية التي استند إليها علماؤنا في صياغتها، وجدنا نصوصا كثيرة تتضافر على معناها وتشهد لمشروعيتها. ولعل من أقوم الأدلة عليها في القرآن الكريم قوله عز وجل: «إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نِعِمَّا يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا» (19).

قال الإمام القرطبي ﴿ م 671 هـ ﴾  رحمه الله تعالى: «هذه الآية من أمهات الأحكام ؛ تضمنت جميع الدين والشرع … والأظهر … أنها عامة في جميع الناس فهي تتناول الولاة فيما إليهم من الأمانات في قسمة الأموال، ورد الظلامات، والعدل في الحكومات … وتتناول من دونهم من الناس في حفظ الودائع والتحرز في الشهادات وغير ذلك … فالآية شاملة بنظمها لكل أمانة وهي أعداد كثيرة » (20). ثم أضاف «وهذا خطاب للولاة والأمراء والحكام، ويدخل في ذلك بالمعنى جميع الخلق» (21). فعُلم من هذا البيان أن جميع الولايات الدينية والدنيوية متضمنة في الأمانات، وأنه يتحتم على كل من يتولى أمانة من تلكم الأمانات أن يؤديها بالعدل ويقيمها بالقسطاس.

ومن الآيات الدالة على معنى هذه القاعدة قوله تعالى: «ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قِيَماً» (22). فهذه الآية تفرض الاحتياط في حفظ أموال اليتامى والعاجزين، فالله تعالى لما أمر بدفع أموال اليتامى إليهم وإيصال الصدقات إلى الزوجات، بيّن أن السفيه وغير البالغ لا يجوز دفع ماله إليه، فدلت الآية على ثبوت الوصي والولي والكفيل للأيتام (23).

بالإضافة إلى هذه الآيات هناك توجيهات سديدة جامعة وردت في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ترشد إلى مدلول هذه القاعدة وتدل على الغاية المقصودة منها … فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته؛ الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته ـ قال : وحسِبت أن قد قال والرجل راع في مال أبيه ومسؤول عن رعيته، وكلكم راع ومسؤول عن رعيته» (24) فهذا الحديث يبين أن كل هؤلاء الرعاة مسؤولون على اختلاف مراتبهم، وأن «كل من كان تحت نظره شيء فهو مطالب بالعدل فيه والقيام بمصالحه في دينه ودنياه ومتعلقاته» (25).

وكثيرة هي الأحاديث الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي تبشر أهل العدل المقسطين من الولاة والأمراء، وتتوعد أئمة الجور والظلم، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أحب الناس إلى الله عز وجل يوم القيامة وأقربهم منه مجلسا إمام عادل» (26).

تلكم نخبة من الآيات الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة التي تعتبر مستندا أصيلا ومنبعا خصبا لهذه القاعدة الجليلة، والتي تحدد معالم سلوك الأئمة والحكام والولاة، وتضبط تصرفات كل من يرعى أمراً من أمور المسلمين في الدولة الإسلامية، أو ولاية من ولاياتهم الدينية أو الدنيوية، وهي توجب في مجموعها على كل من ولي شيئا من أمر المسلمين، من هؤلاء وغيرهم، أن يستعمل فيما تحت يده الأصلح والأنسب، وأن يختار في كل موضع أو تصرف الأمثل فالأمثل …

خاتمة

إن الناظر في السياسة الرشيدة لمولانا أمير المؤمنين صاحب الجلالة الملك محمد السادس حفظه الله تعالى يجدها مؤسسة على جلب مصالح الرعية، والدفاعِ عن مقدساتها وثوابتها الدينية، والذود عن عزتها وكرامتها وهويتها الوطنية.

فمنذ أن تولى رعاه الله مقاليد الحكم في 30 يوليوز 1999، بَصَم على عهد جديد سِـمَـتُه الأساسية الحفاظ على رسوم شؤون المغرب الدينية، ورعاية مصالحه الدنيوية؛ فقد استطاع بتوفيق من الله وتسديده، وبفضل نباهته ونزاهته وعلوّ همته وقوة عزيمته تحقيق إنجازات ملموسة في مختلف المجالات السياسية والدبلوماسية والاقتصادية والاجتماعية … إنجازات تَرْسُم للمغرب معالمَ مستقبلية واعدة، وتضعه في مرتبة أرفع في سُلَّم الديموقراطية والحداثة والتنمية، إنجازات حوَّلت المملكةَ المغربية إلى ورش مفتوح ضخم يسير على درب تحقيق الازدهار والنماء على جميع الأصعدة.

وبفضل عمق رؤية جلالته المستنيرة، وحبه لهذا الوطن، انخرط المغرب في دينامية قوية من الإصلاحات التي ترمي إلى « إرساء دعائم مجتمع متضامن، يتمتع فيه الجميع بالأمن والحرية والكرامة والمساواة، وتكافؤ الفرص، والعدالة الاجتماعية، ومقومات العيش الكريم، في نطاق التلازم بين حقوق وواجبات المواطنة »(27).

وتندرج هذه الدينامية في إطار إرادة صاحب الجلالة في تحقيق تنمية شاملة ومندمجة للمملكة، وتعزيز مكانة المغرب على الساحتين الإقليمية والدولية، وتكريس قيم الديمقراطية والحداثة، في تناغم مثالي مع أسس الهوية المغربية، والثوابت الدينية، والقيم المؤسِّسة للدولة الوطنية.

وبه يتضح مدى ارتباط السياسة الحكيمة لجلالة الملك محمد السادس حفظه الله تعالى بقاعدة ” تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة ” بحيث يتجلى مدى رسوخ هذه القاعدة وامتداد سلطانها في كل تصرف من شأنه أن يحفظ مصالح المغرب، ويُعلي صروحه، ويضمن له القوة والعزة والتميُّز، ويحقق له الأمن والتنمية والاستقرار.

والحمد لله رب العالمين

 

الإحالات:

(1) فمن أمثلة القواعد والمبادئ العامة التي تضمنها القرآن الكريم: قوله تعالى:﴿ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف﴾ [البقرة : 226 ] فهذه الآية مبدأ عام يحدد حقوق وواجبات الزوجات نحو أزواجهن، وقوله عز وجل: ﴿فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم﴾ [البقرة : 193] وهو قاعدة تقرر المماثلة في الجزاء، وقوله سبحانه: ﴿يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود﴾ [المائدة : 1 ] الذي يعتبر قاعدة تقضي الوفاء بكل عقد أو عهد، واحترام كل التزام، ومثلها قوله تعالى: ﴿وأوفوا بالعهد﴾ [الإسراء :34].

ومن جوامع كلمه التي خرجت مخرج القواعد الفقهية قوله صلى الله عليه وسلم: “لا ضرر ولا ضرار” [أخرجه مالك في الموطأ في الأقضية، باب القضاء في المرفق، ح : 33 ]، وقوله عليه السلام : “الخراج بالضمان ” أخرجه أبو داود في كتاب البيوع : باب في عهدة الرقيق، ح : 3508 ـ 3510، والترمذي في كتاب البيوع ، باب ما جاء فيمن يشتري العبد ويستغله ثم يجد به عيبا، ح : 1285 ـ 1286، والنسائي في كتاب البيوع ، باب الخراج بالضمان.

يراجع: القواعد الفقهية والأصولية: دراسة تأصيلية، سلسلة القواعد الفقهية والأصولية رقم 1 لكاتب هذا المقال، ص 61 – 66.

(2) فمثلا قاعدة: ” المشقة تجلب التيسير ” استنبطها الفقهاء من نصوص كثيرة، منها قوله تعالى: ﴿وما جعل عليكم في الدين من حرج﴾ [الحج : 76 ] ، وقوله سبحانه: ﴿يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر﴾ [البقرة : 184 ] وقوله: ﴿ يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا ﴾ [النساء : 28 ] وقوله : ﴿ إن مع العسر يسرا ﴾ [الشرح : 6 ] إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث التي وردت في هذا المعنى .

(3) يراجع: المنثور في القواعد للزركشي، والأشباه والنظائر لكل من السيوطي وابن نجيم.

(4) يراجع: المدخل الفقهي العام :2/961.

(5) جمع بعضهم هذه القواعد الخمس في منظومة جاء فيها:

خمس مقررة قواعد مذهــب         للشافعي فكن بهن خــبيــرا

ضرر يزال وعادة قد حكمـت      وكذا المـشـقة تجلب التيسيرا

والشــك لا ترفع به متيقنـا     والقصد أخلص إن أردت أجورا

(6) يراجع: الأشباه والنظائر للسيوطي: ص 59 ـ 63، والأشباه والنظائر لابن نجيم: ص 94 ـ 100، والقواعد الفقهية في المذاهب الأربعة: دراسة لأهم مصادرها لكاتب المقال ص 34.

(7) يراجع المدخل الفقهي العام: 2 / 981 ـ 991.

(8) يراجع: الأشباه والنظائر للسيوطي ص 83، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص 137.

(9) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 83.

(10) الأشباه والنظائر لابن نجيم، ص 137، ويراجع: غمز عيون البصائر شرح كتاب الأشباه والنظائر لأحمد الحموي الحنفي 1/369.

(11) سورة النساء الآية: 6.

(12) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 137.

(13) يراجع: المنثور في القواعد للزركشي، ج 1/ ص: 309، والأشباه والنظائر في الفروع للسيوطي ص: 83، والأشباه والنظائر لابن نجيم ، ص: 137.

(14) الأشباه والنظائر لابن السبكي، ج1 ص 310.

(15) المصدر السابق: ج1 ص 310

(16) الفروق: 4/39.

(17) يراجع: بحث كاتب هذا المقال: القواعد الفقهية من خلال كتاب ” الفروق ” لأحمد بن إدريس القرافي، ص: 35.

(18) قواعد الأحكام في مصالح الأنام: 2 /75.

(19) سورة النساء: الآية 58

(20) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 5 /255 ـ 256 ـ 257.

(21) المصدر السابق: 5 / 258.

(22) سورة النساء: الآية 5.

(23) يراجع: الجامع لأحكام القرآن: 5 / 28.

(24) فتح الباري: كتاب الجمعة ـ باب الجمعة في القرى والمدن: ج 2 ص 380 كذا في صحيح مسلم بشرح النووي: كتاب الإمارة ـ باب فضيلة الأمير العادل وعقوبة الجائر، والحث على الرفق بالرعية والنهي عن إدخال المشقة عليهم: ج 12 ص 213.

(25) المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج 12/213.

(26) مسند الإمام أحمد وبهامشه منتخب كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال: 3/22.

(27) نص على ذلك الدستور المغربي الجديد الصادر سنة 2011.