أشعرية الإمام أبي إسحاق الشاطبي (ت 790هـ)



أشعرية الإمام أبي إسحاق الشاطبي (ت 790هـ)

سئل أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله عن تفسير ما جاء من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما تقرب عبدي إليَّ بشيء أحب إليَّ مما افترضت عليه».

فأجاب:

عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «وما تقرب عبدي إليَّ بشيء أحب إليَّ مما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره التي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه».

الكلام على هذا الحديث على غاية الاختصار من وجوه: والذي يقع فيه الإشكال منها قوله: «كنت سمعه الذي يسمع به»، فإنه مشكل من جهة جعل الباري تعالى سمعا للعبد وبصرا ويدا ورِجلا فإنه محال من جهتين:

إحداهما: نسبة ما بين الباري تعالى والعبد، وذلك يقتضي كون الباري شبيها بالعبد، والتشبيه لا يجوز لأنه يلزم منه في الباري ما تقتضيه العبودية من لوازم الحدوث من الجسمية وأشباهها تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

والثانية: أن ذلك يفهم منه أن الباري بنفسه هو السمع والبصر واليد والرجل، فيلزم أن يكون الشيء الواحد أشياء متعددة وأن الباري تعالى سمع وبصر ويد ورجل وذلك كله محال.

فإذا كان ظاهر الحديث يلزم منه هذه المحالات مع أنه صحيح لزم النظر في تأويله، ويمكن أن يكون على حذف مضاف، والتقدير كانت طاعته أو تقواه سمعه وبصره، لأن هذا الكلام إنما يقال فيمن صارت الطاعة لازمة له حتى كان آلاتها وهي الأعضاء هي نفس الطاعة، فأطلقت هذه العبارة مجازا من تعبير بالشيء عن الشيء، كما تقول: زيد زهير وزيد أسد، وإن اختلف المعنيان، فإذ ثبت هذا رجعنا منه إلى معنى آخر، وذلك أن الحديث اقتضى أن النوافل سبب في المحبة؛ لأنها من حيث هي تبرع صار العبد بها متفرغا إلى عبادة ربه، ومستكثرا منها، وإذا كان كذلك انجـر أمره إلـى محبة الله، ثم لما كانت النوافل سبب المحبة، وكانت النوافل قد تعلقت بالأعضاء، بحيث صارت الطاعات كأنها نفس الأعضاء، لزم من ذلك تعلق المحبة بها، وذلك عبارة عن محبة الله للعبد. فإذاً كل من كانت الطاعات سمعه وبصره ويده ورجله، فهو مطيع حقا وهو إذاً محبوب حقا، ثم ليس من هذا المعنى البَيّن نحو آخر أعلى منه، وذلك أن كون الرب سمعا وبصرا يكون على ثلاث مقامات:

المقام الأول: ما تقدم بيانه.

 والثاني: أن يزيد على ذلك وصول حد النوافل إلى القلب وصولا يظهر على الجوارح، ومعنى ظهوره على الجوارح، كون الرب سبحانه ظاهرا فيها. وذلك أن الجوارح عند السالك ليس لها من أنفسها حركات ولا سكون؛ لأنها من جملة العبد، فكان السامع والمبصر والقادر على البطش والمشي، هو الله تعالى لا العبد، يشهد ذلك العبد شهودا، وإن كان العبد هو الفاعل، فالله تعالى هو الفاعل على الحقيقة، فعبر عن هذا المعنى بقوله: كنت سمعه وبصره ويده ورجله، ولما كان هذا المعنى لا يختص بالذات دون الصفات، ولا بصفة دون صفة، فكان كل صفة هي الرب وحده.

والمقام الثالث أعلى من هذا، وهو أن العبد قد يزيد في النوافل حتى يكلف ذلك المعنى الثاني، فيغيب عنه العبد بظهـور الرب في نفس العبد في سمعه وبصره ويده ورجله، وذلك عبارة عن غيبته في كُلِّيته فكأنه ما ثم إلا الواحد، وإلى هذا المعنى أشار ابن القاسم صاحب مالك بقوله: هو كل شيء، وهو مالك كل شيء، وهو في كل مكان، وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله، هذا منتهى ما سمح به الخاطر، على حال اعتلال وضعف جسم.

وللميل إلى غاية الاختصار فإن المسألة تحتمل من الكلام أكثر من هذا فليسمح المطلع، وهو أول السماح، وليغض عما احتوى عليه من الخطأ والوهم، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.