أثر الثوابت الدينية في تمتين العلاقات العلمية والروحية والاجتماعية بين مسلمي إفريقيا



أثر الثوابت الدينية في تمتين العلاقات العلمية والروحية والاجتماعية  بين مسلمي إفريقيا

د. إدريس ابن الضاوية

رئيس المجلس العلمي المحلي للعرائش

 

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الميامين.

وبعد، فإن الموضوع الذي أتشرف بعرضه على شريف مسامعكم في ناديكم المتألق المنيف هذا، يتناول موضوعا بالغ الأهمية بالنسبة لقارتنا، التي تجمعها مع المغرب منذ دولة المرابطين التي امتدت إلى حدود السودان إلى يومنا هذا روابط نفيسة أصيلة، لتعلقه بأسس الصلات الروحية وقواعد السنن الأمنية، التي قوت الأخوة الدينية، وثبتت المقامات التزكوية وعززت الوشائح الجغرافية، وآزرت اللحمات التاريخية، وعددت الأسانيد العلمية، وظافرت المسالك التربوية، وحمت من الدعوات التبديعية وعصمت من المقولات التكفيرية؛ وقومت المناهج الإرشادية، وعززت الروابط البينية؛ فأفلحت في ربط الانتماء الإفريقي الروحي العقدي والفقهي والتزكوي بسبب لا تفصمه مقولات المفرقين، وعززته بحبل لا تقطعه تشغيبات المغامرين.

وقد اجتمعت أسس هذه الصلات النفسية والروابط الدينية في المشترك الديني الجامع للثوابت المؤلفة التي طبعت التدين في إفريقيا، وميزت صبغة التلقين والتمثيل والتمرين فيها، وأخلصت ضروب التصنيف في العلوم الملية والتثقيف بها، التي يجزم الواقف عليها أنها تحركها دوافع داخلية كبرى موجهة لرابطة الجماعة المقتدية الوفية لإرث أسلافها الحكماء، المستندة إلى تقريرات الأئمة الدعاة الفضلاء، مراجع الدين الموقعين عن رب العالمين، الذين أداروا مقاصدهم النبيلة في توحيدهم وتقربهم ومداواة علل نفوسهم على العقيدة الأشعرية المنزهة، والمذهب المالكي المدني المنفتح، والتصوف السني الجنيدي المخلق، الذي ترعاه مع سائر الثوابت إمارة المؤمنين، الحامية للملة والصائنة لحمى الدين حسا ومعنى.

وأقرب مثال بين أيدينا للدلالة على مرجعية هذه الأصول عند أئمة قارتنا ودعاتها ومربيها، ما أفاده العلامة الحسيب النسيب الشيخ إبراهيم صالح الحسيني في كتابه “الاستذكار لما لعلماء برنو من أخبار وآثار” الذي ترجم فيه لمئات من علماء المنطقة ما بين القرن السادس عشر إلى يومنا هذا، إذ انفصل بعد تتبعه الحسير، وإحصائه البصير أن هؤلاء الأعلام العدول كلهم أداروا رحة بيانهم وبيناتهم على رسم معاني هذه الثوابت الجامعة لأنهم جميعا مالكيو الوجهة. في العمل. أشعريو المذهب في العقيدة، وأنهم هم الذين تولوا نشر كتب المذهب والعقيدة بين الناس في أرض “كانم برنو”[1].

ولتقريب مقاصد هذه الورقة وتسهيل إدراك مبانيها، جعلتها في أربعة مقاطع كاشفة عن حقيقة المآخذ الدينية عند علماء قارتنا التي يتبصرونها عن وعي تام لدفع الفتنة واستدامة الأمن والاستقرار، وتلبية احتياجات الناس في التعليم والتزكية وفي الحماية والتنمية التي تعطي للحياة معناها.

المقطع الأول: ثابت العقد الأشعري

أما العقد الأشعري بمشمولاته النظرية والعلمية. فهو المحرك الحقيقي لأفعال جمهور المكلفين في عيارة التوحيد ببعديها النصي والعقلي، لذلك عدها علماء الأمة أفارقة وغيرهم، عقيدة الحق بإلهياتها الدالة على الله وجلاله وكماله ومراده، ونبوياتها الناصة على الوحي وامتيازاته ومعجزاته ومقتضياته، وسمعياتها المذكرة بمشاهد الغيب وآلياته ومنتظراته وجزاءاته ومقاماته.

وتمتاز هذه العقيدة بخصيصة الكشف عن وجه الواقع في قضايا الاعتقاد، وبوفائها لمعتقد سلف الأمة في عصر النص وزمن حملته الأوائل المنتهي في خصائص صناعته ومشمولاتها إلى الإمام أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري المتوفى سنة 324، الإمام الداعي إلى الحق وصحيحه، والحجة في إبطال الباطل وتزهيقه، وهي التي اختارها فيهم من ترأس من أهل العلم من الأعلام الكبار الموقنين، والسادة العظام المتبصرين، مثل أبي بكر الباقلاني، وأبي الحسن القابسي، وأبي عمران الطلمنكي[2]…، ومشى على سننهم في قارتنا الإفريقية من كانوا – يوم أسلموا[3]– مرجع الناس في تنوير قلوبهم، ومفزعهم في تلبية احتياجات تدينهم، والبث في مسائلهم ونوازلهم، والانتصار لاختياراتهم، والحجاج عن أصول معتقداتهم التي تميزهم عن المتفرقين من صنوف الشاكين، والمتخالفين من المشككين.

ومن حسنات هذه العقيدة، التي استيقنتها قلوبهم، وقبلتها طبائعهم، واستقرت عليها آراؤهم، أنها متسننة مبرهنة، ومنزهة ممجدة، وواقعة على المعنى الصحيح الذي يقتضيه الشرع، ويقبله اللسان، ويسلمه صحيح الأخبار، وتجوزه العقول التي لا تفتنها ظواهر الألفاظ؛ ثم إنها ضمنت عبر القرون وحدة المغاربة وسائر دول إفريقيا- خصوصا دول غربها جنوب الصحراء الكبرى- في مسائل الاعتقاد بشقيه: الشق النظري المتعلق بالذات والصفات، والأفعال، والنبوات، والقرآن، والإيمان، والقدر، وعذاب القبر، والحوض، والعقاب ، والشفاعة، والتأويل، وإمارة المومنين.

والشق العلمي المتمثل في مسلك التصوف ومهيع التعرف القائم على إخلاص الدين لله تعالى، وابتغاء وجهه، وإعظام ذكره، واتخاذ سبل التقرب إليه بواجباته المفترضة والتماس محبوبيته بصنوف النوافل المحددة، وابتغاء وجهه بأنواع الإحسان المعددة.

إن هذا الاعتقاد بركنيه، حمى أهله في عقائدهم ومبانيها، وعرفهم بحقيقة النفس ومشانيها، وحدد لهم ما لها وما عليها، وعصمهم من الاستجابة لأهواء النفس واتباع خطوات الشيطان؛ وآمنهم من الوقوع في فتنة التعطيل والتشكيل، وبلية التشبيه والتشريك، والخروج المكفر بالذنب الذي وقع فيه من زعم أن الإيمان لا يكون إلا بفعل الطاعات المفترضة كلها، بالقلب واللسان وسائر الجوارح، وأن من واقع المعصية التي جاء الوعيد فيها في الخبر الصحيح لا حظ له في الإيمان، ولا خلاق له في الآخرة ولا موقع له في الجنان؛ لأن عقد الإمام الأشعري المبارك ينص على أن أصل الإيمان المعرفة بالله، والتصديق له، وبه، وبما جاء من عنده بالقلب واللسان، مع الاطمئنان للخضوع لجلاله، والسكينة في تنزيل أحكامه، والحب المتفرد لجنانه، والخوف من أليم عقابه، والتعظيم لجماله وكماله، واستشعار تدبيره لحركة عباده، في الخلق والخلق والرزق والأجل، مع ترك التكبر والاستنكاف وصنوف المعاندات.

وقد قام هذا العقد المنزه على أربعة مقاطع كبرى، هي جماع محاسن هذه العقيدة، وعنوان ثبات معالمها، وأساس بقاء آثارها واستمرار محامدها ومفاخرها:

أولها: التسنن بشروطه الاعتقادية إثباتا ونفيا المنتهية إلى مسلمات المقتدى بهم من السالفين الذين هاجروا وناصروا ومثلوا الملة بحسن اعتقادهم وجسدوا بصائب تعبدهم وقويم سلوكهم إرث النبي صلى الله عليه وسلم، وصوى تدينه شرفه الله وكرم، المصون من تحريفات الغالين والمحفوظ من انتحالات المبطلين وتأويلات الجاهلين التي لا تراعي حق الموروث.

وثانيها: التأويل بقصد التنزيه، المراعي للمعنى الذي يصرف اللفظ في ظاهر دلالاته، بحجة الأصول المحكمة الحاكمة عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن به، بلحاظ ما نصبت عليه من الدلائل، ونحيت إليه من المذاهب؛ القاصدة إلى إبانة ما دق مما لم يعلم في التعقل الصحيح بظاهره، برد المتشابه إلى محكمه الذي يمثل أساس التأويل الصحيح المتجاوز لظواهر الألفاظ الموهمة للتشبيه، التي لا يصح معها التسليم ببلوغ الحق في مسلمات التوحيد.

وقد استطاع أئمة الأشاعرة ومن اقتدى بهم من الفضلاء، باعتماد هذا النوع من العلم حمل بعض الظواهر المتعلقة بأخبار الذات والصفات التي لم يُرَد من سياقها معاني ألفاظها الظاهرة التي حملها منكرو المجار من المشبهة على المتبادر منها، فجعلوا الله إنسانا أزليا، وجسما عضويا ونسبوا له تعالى منكرا من القول أفاد بادي الرأي في حق الله تعالى التحديد والتمثيل، والتبعيض والتجزيء والحركة والانتقال والملامسة والرؤية في الدنيا بالعين الفانية المنتهية حتما عند التأمل بتثبيت عقيدة التجسيم التي تنعت الله تعالى بالنعوت المحسوسة، وتصفه بصفات العالم المحدودة التي يبطلها جميعا قول الله تعالى: (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) [الشورى: 9]. ونظائرها من الآيات مثل: (ولم يكن له كفؤا أحد) [الإخلاص: 4].

وقد بين الإمام القاضي عياض اليحصبي مرجع ذلك في قوله: وإنما جاء خلاف ذلك- أي ما كان عليه أبو الحسن الأشعري في المعتقد- من قوم من أصحاب أبي حنيفة كان مذهبهم الاعتزال في الأصول، كعبد الجبار قاضي الري، والتنوخي، وأمثالهم من غلاة المعتزلة ودعاتهم. ومن قوم ينتسبون إلى مذهب أحمد بن حنبل، غلوا في ترك التأويل، حتى وقعوا في فتنة التشبيه، وأكثرهم ليس من العلم بسبيل، ولكنهم لانتسابهم إلى السنة والحديث، قبلت العامة أقوالهم، ولم تنفر منها نفورها من أولئك الأخر. فقرروا عند العامة أنه مبتدع، وأضافوا إليه من المقالات ما أفنى عمره في تكذيب قائلها وتضليله[4].

وثالثها: التوسط والاعتدال بين الغلاة والجفاة من مجموع المتفرقين من الإسلاميين عن مسلك الجماعة الذين أخطئوا طريق الحق في كبريات مباحث الاعتقاد التي اختلف حولها المصلون، والتي تشمل: القول في ذات الله تعالى علة كل ممكن، تمجيدا وتقديسا، والقول في صفاته حقيقة ومجازا، والقول في أفعاله تدبيرا وعدلا، والقول في الوعد الوعيد جزاء وقسطا، والقول في الإيمان اعتقادا وإعمالا، والقول في القرآن تنزيلا وإعجازا، والقول في رؤية الله تعالى تنزيها وإثباتا، والقول في إمارة المؤمنين بيعة ونظاما ووظيفة ومستندا وضرورة لانتظام شأن الحياة الدينية والدنيوية.

ورابعها: التحفظ من التكفير بلحاظ التقصير في القيام بحق بعض الأعمال المكملة للإيمان فظاهر في تسالمهم على أن هذه الشريعة السمحة لا تعتبر من المكلف إلا ما يدل على إسلامه، بلحاظ ظواهر أحواله الدالة على صدق انتسابه إلى الإسلام، وقبوله الدخول في جماعة المسلمين، كما يدل على ذلك صريح قول الله تعالى: (ومن يعمل من الصالحات من ذكر اَو انثى وهو مومن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا) [النساء: 123].

ووجه الدليل من الآية، أن عمومها يقتضي أن كل من عمل عملا صالحا وهو مؤمن فإنه يدخل الجنة، فيدخل في عمومها من عمل صالحا وكبيرة وهو مؤمن، وإذا ثبت أن من آمن وعمل صالحا وكبيرة يدخل الجنة، فلا يمكن ذلك إلا إذا قلنا: إن صاحب الكبيرة لا يخلد في النار… وإذا ثبت أن كل من آمن وعمل صالحا لا يخلد في النار لزم أن كل من آمن لا يخلد في النار وإن لم يعمل صالحا، إذ لا قائل بالفرق في المؤمن الذي يذنب كبيرة بين أن يعمل صالحا أم لا.[5]

ولا يجوز جعل العمل من الإيمان؛ لأن الله غاير بينهما حينما قال: (ومن يومن بالله ويعمل صالحا نكفر عنه سيئاته ويدخله جنات تجزي من تحتها الاَنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم)  [التغابن: 9]. وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) [البقرة: 182]. وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين) [المائدة: 7]. سماهم مؤمنين بدون العمل. وقال تعالى: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعها أولئك أصحاب الجنة هو فيها خالدون) [الأعراف: 41]. فعطف الأعمال الصالحة على الإيمان، وبين المعطوف والمعطوف عليه مغايرة؛ ولأن الأعمال الصالحة لو كانت من جملة الإيمان لما جاز ورود النسخ عليها، لأن الإيمان لا يقبل النسخ، ولأن الأعمال الصالحة لو كانت من جملة الإيمان لما مات أحد مستكمل الإيمان، لأنه ليس لها حد معلوم، وما ليس له حد معلوم لا نهاية لكماله، ولا غاية لأقصاه، ولأن من أتى بالإقرار والتصديق ومات من ساعته قبل أن يأتي بالطاعة أو يمتنع عن المعصية فإنه يموت مؤمنا، فثبت أن الأعمال الصالحة ليست من جملة الإيمان.[6]

وكان من آثار أخذ المغاربة ومن سلك مسلكهم من الأئمة الأفارقة بمرتكزات هذه العقيدة، الالتزام بهذه الوسطية في هذه المشمولات والأخذ بهذا الاعتدال في الاعتقادات، لأنها قربت وصف الإيمان استنادا إلى اعتقاد علماء المدينة، الذين أجمعوا على أنه قول وعمل، يزيد بالطاعات، وينقص بالسيئات، وأن بعضه أفضل من بعض.

والنتيجة الكبرى لهذا المعتقد في هذا العصر عصر الهرج، أنه بمقتضى هذه العقيدة، لا يلحظ بين الأمم الإفريقية المرتبطة بها تشبيه المجسمين، ولا تعطيل القدريين، ولا تسمع طعنا في أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا لمزا لهم بسبب ما وقع بينهم من خلاف مرجعه إلى الاجتهاد في مراعاة المصالح، ولا تلحظ أحدا يكفر أحدا من المسلمين، أو يترك الصلاة خلف إمامهم، أو يستنكف عن الصلاة على آحاد موتى المسلمين لذنب ارتكبه، أو إثم كبير اجترحه، بل تراهم مجمعين على أنه: إن صح منهم النطق بالشهادتين، تتكافأ دماؤهم وأموالهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، ويجير عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم.

لذلك أولوا الأحاديث الموهمة للتكفير بالذنب التي استند إليها الخوارج، ومن وافقوهم في بدعة التكفير من بعض المنتسبين لمذهب الإمام أحمد رحمه الله، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (كفر بالله ادعاء إلى نسب لا يعرف، وكفر بالله تبرئ من نسب وإن دق)[7]. ونظائرها مثل قوله: (قتال المسلم أخاه كفر، وسبابه فسوق)[8]؛ لأنه يحمل عندهم على الكفر العملي الذي لا ينتفي معه أصل الإيمان.

ومن جميل آثار الصدور عن هذا المذهب في مشمولات الإيمان أن عموم المقتدى بهم من أهل العلم، المرجوع إليهم في الفتوى والقول في الدين، لا يكفرون أحدا من أهل القبلة، ولا يخلدون في النار من يحافظ على الوضوء من عموم الموحدين.

كيف وهم يذكرون قول إسحاق بن محمد الفَرْوي المدني الفقيه: “كنت عند مالك بن أنس. فسمعت حماد بن أبي حنيفة، يقول لمالك: يا أبا عبد الله، إن لنا رأيا نعرضه عليك، فإن رأيته حسنا مضينا عليه، وإن رأيته غير ذلك كففنا عنه، قال: وما هو ؟ قال: يا أيا عبد الله، لا نكفر أحدا بذنب، الناس كلهم مسلمون عندنا. قال: ما أحسن هذا، ما بهذا بأس…”[9].

ثم كيف وقد قال شيخهم أبو الحسن الأشعري عند حضور أجله لجليسه زاهر بن أحمد السرخسي: اشهد علي أني لا أكفر أحدا من أهل القبلة، لأن الكل يشيرون إلى معبود واحد، وإنما هذا كله اختلاف العبارات.

قال الذهبي: وبنحو هذا أدين، وكذا كان شيخنا ابن تيمية في أواخر أيامه يقول: أنا لا أكفر أحدا من الأمة، ويقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: “لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن”[10].؛ فمن لازم الصلوات بوضوء فهو مسلم.[11]

المقطع الثاني : ثابت المذهب المالكي

أما المذهب المالكي المدني المتسنن المنتشر منذ دهر في بلدان الغرب الإسلامي وأكثر البلدان الإفريقية كما يدل على ذلك تاريخ الحركة العلمية المؤطرة بالثوابت التي درج عليها المغاربة في جامع القرويين بفاس، وجامع علي بن يوسف بن تاشفين بمراكش، ومعاهد سوس، وزوايا الصحراء وكتب الدرس، ونسخ الدارسين، ومخطوطات الخزائن، فهو من الثوابت الدينية التي لا تختلف فيه الاجتهادات، ولا تخضع للظروف والأعراف والأحوال والعادات…

وقد ميز هذا المذهب الموروث، أمران مهمان مقدمان:

أولهما قدر إمامه مالك بن أنس، أمير المؤمنين في الحديث، أحد حجج الله على خلقه، المتسالم على علو قدره في كل مسار التناقل بلا خلاف بين المتكلمين في الدين؛ لإحاطة العلم بأنه أقيم له الصراط المستقيم المنصوص عليه بحق العلم الصحيح في الحديث المرفوع رفعا صريحا إلى النبي صلى الله عليه وسلم الذي جاء فيه: (ليضربن الناس أكباد الإبل فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة)[12]، الذي قال فيه السلف عن تحقيق: إنه المراد بهذا الحديث لكونه كان في زمنه أعلم من بقي، وأنه الذي ضربت إليه أكباد الإبل من شرق الأرض وغربها، لما شهر من العلم، وذكر به من حسن الفقه.

وثانيهما: مكانة الموطأ أصح الكتب حديثا، وأكثرها صوابا وأحسنها قبولا، وأنفسها إرسالا وأسدها بلاغا، وأكرمها ترتيبا، وأبدعها تنسيقا، وأبرعها اختيارا، وأجملها اشتهارا، وأقربها تناولا، وأعمقها فقها وفهما، وأوعبها غاية وقصدا، وأولاها تقدما وسبقا، وأنفعها ترتيبا ونظما، وأوسعها تبثيتا ونشرا، وأكثفها سماعا وأخذا، وأمهرها تمييزا ونقدا، وأوضحها معنى وشرحا وبسطا، وأبرأها لفظا معمى ومعنى مغطا، وأشهرها أداء وحملا، وأبسطها تحميلا ونقلا، وأتقنها ترجيحا وميزا، وأغمرها إنماء، وأشدها اعتناء، وأدثرها فسرا، وأطيبها نشرا، وأشرفها توفيقا، وأزكاها تخليصا، وأعلاها حُمّالا، وأتقاها رجالا.

فلم يكن لأجل ذلك خلاف على هذه المكانة المستحقة بين مجموع مصنفي دواوين السنة السائرة، لتميزه بالأقربية من زمن نزول القرآن، وجمعه لأصول شريعة الإسلام، وارتباطه القوي بشرف المكان – مدينة النبي صلى الله عليه وسلم مرجع الفضلاء ومحط رحال العلماء، حيث كان جبريل عليه السلام يروح ويغدو، بمرادات الله من المكلفين، – واختصاصه بقدر الزمان – المندرج في القرون الفاضلة بالمجموع  – وقدر المشيخة – الوفية لوراثتها علما وعملا – وأبلغية الشرط في انتقاء عيون الأخبار، – المراعي للوثاقة اشتغالا وتنزيلا وتسننا وتخلقا-، وبَدَاعَة سابقة في منهج الترتيب لتحصيل واجب التقريب – الجامع لحجج أركان الدين بشرط العمل الصحيح التي يؤدى بها حق التكليف-، والمؤسس على اعتماد ما تحته عمل، الوفي لاحتياجات المكلفين في مختلف أبواب العبادات والمعاملات والأخلاق… والتقيد بالعمل المدني النقلي أصل العلم المنتهي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثم إلى الخلفاء الراشدين وأهل الشورى في أيام حكمهم، والمترئسين من تلاميذهم الذين حظوا بشرف تزكيتهم، ونالوا قدر الاقتداء بهديهم، والتشبه بهم في سمتهم ودلهم.

وقد ترسخ هذا المذهب في المغرب ترسيخا رسميا على أيدي الأدارسة الأشراف[13]، لما وفد على المولى إدريس الثاني عام 189 بعد عام على بيعته، أعلام من العرب كان من بينهم عامر بن محمد القيسي تلميذ الإمام مالك، الذي لما عرف المولى إدريس قدره وأدرك مكانته، وما يربط آله بمالك إمام دار الهجرة، ولاه خطة القضاء، وأذن له أن يقول في ما يعرض على نظره من المسائل والأقضية بما يعلمه من الوحي ثم بمقتضى ما بلغ سمعه من الروايات والسماعات المنتهية إلى مالك؛ ثم اتسعت رقعته في قارتنا اتساعا مشهودا بعد أن أوتي المرابطون ملك الغرب الإسلامي وانتصروا على رؤوس الفرق المتفرقة عن الجماعة مثل الخوارج والشيعة والمعتزلة[14].. وجميع التكتلات التي كان يتعاطى أئمتها ضروب التحريف… حتى صار منتهى ملكهم منذ ذلك العهد مرجع بلدان الغرب الإسلامي وأكثر البلدان الإفريقية في معرفة الوظائف الدينية وتحديد المقاصد الشرعية وتعيين ما يلزم من التكليفات الوقتية، كما يدل على ذلك التاريخ وصحيح الإسناد، وكتب الدرس، ومجموعات الفتاوى، ونسخ الدارسين، ومخطوطات الخزائن المنشرة في المغرب وموريتانيا والجزائر وليبيا ومالي ونيجيريا وسائر البلدان الإفريقية.

ومن حقق النظر في آثار مالك المسندة، وتبصر أصول فقهه المحكمة، وأدرك مآخذ اختياراته المبرمة، ثم تتبع بيناته في الأحكام الشرعية، ومستنداته في الوظائف الدينية، أيقن أن المذهب المالكي– الموروث أصالة عن فقهاء المدينة السبعة التابعين-، حقيقة عرفية في أصول العلم التي انتهت إلى الإمام مالك من عمل أهل المدينة المتوارث عن النبي صلى الله عليه وسلم المتواتر عن أصحابه المرجوع إليهم في الفصل بصحيح النقل المشهود في تصرفات المكلفين.

وقد جزم الإمام أبو محمد عبد الله بن إبراهيم الأصيلي 392 هـ الذي خبر روايات المذهب وضبط سماعاته؛ أنه لا يوجد في كتاب الله عز وجل ولا في سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ولا في إجماع المسلمين ما قول مالك، رحمه الله بخلافه، وأن مالكا وإن كثر عليه من لم يتق الله في تكثيره بعد أن انقرضت طبقته، ولم يختلف أهل عصره في معرفته بما ذكرت من الكتاب والسنة والإجماع، لا سيما الأئمة منهم كالثوري والأوزاعي والليث بن سعد وأشباههم، … وأن مذهب مالك هذا الذي يعزوه إليه الناس ليس له منه إلا اليسير فيها اختاره مما اختلف فيه أهل المدينة…، وهو القضاء المعمول به نقلا متواترا منذ زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عهد مالك وقربه من عهد الرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتابعيهم[15].

وقد ألزم المغاربة أنفسهم ومن سلك مسلكهم من المراجع الدينية في القارة الإفريقية بهذا الأصل القوي نقلا وعقلا، رواية ودراية، ائتساء واقتداء، لانتهائه إلى الموروث التعبدي في زمن النبي صلى الله عليه وسلم الذي قوي قوة المشاهدة المباشرة التي لا يثبت أمامها أي خبر آحاد، يعارضها معارضة صريحة وإن ورد من طرق من اتفق على وثاقته، وسلم لحجية روايته؛ والمنكر الذي لا يلتفت إليه، ولا يتذرع به إلى التقربات.

ثم لغناه بأساليب استخراج الأحكام من مصادرها، ولمرونته في إدماج الممارسات الثقافية المحلية في دائرة الشرع؛ وللأهمية التي يعيرها لعمل أهل المدينة المتميز بشرف مكانه وقدر زمانه وخاصة رجاله الجامعين بين صحة الأثر وقوة النظر، الذين يُنْهون تصرفهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم أصلا أو استدلالا، ثم للمصلحة العامة، التي تضفي الشرعية على كل الاجتهادات التي تخدم المصلحة ولا تتناقض مع قطعيات الشرع، ولتوحيد عامة المسلمين على نمط مقنن في التعبد يحمي جماعة المومنين من ألقيات المبدعين ويؤمنهم من فتنة الاختلاف ويحميهم من عذاب الفرقة؛ “إذ عرض الشارع إنما هو في الاجتماع وتمام الألفة واتحاد الوجهة، وقد قال تعالى لأهل الكتاب: (تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم) الآية. وقد ذم قوما فرقوا دينهم وكانوا شيعا، وإنما الشأن في أهل الخصوصية والدين أن يكونوا عند العاقل المحتاط لدينه كأسنان المشط”[16].

 المقطع الثالث : ثابت التصوف المتسنن المتخلق

إن مما يلفت نظر المتتبع لتاريخ التصوف في ربوع أقاليم الغرب الإسلامي الكبير وجنوبه، انفتاح قلوب أولي النهى من الأفارقة على مدى قرون متعددة للقرآن الكريم وتعلقهم به وتنزيلهم لمضمونه وشدة اعتنائهم به حفظا وتعليما وتدبرا وتدريسا وتفسيرا…، كما يلاحظ التفاتهم إلى وسيلة اللسان المعين على معرفة خطاب الله وامتلاك آلة الفقه…. وتعلقهم بسنة النبي صلى الله عليه وسلم المتناقلة بالطرق الصحاح المبينة عن مراداته التي أخفت معالمها صور الإجمال التي لا يقوم بيانها إلا بلاحظة تصرف النبي صلى الله عليه وسلم بالتعليم والتمثيل والتمرين الحاض على تمثل القيم الفطرية التي توجه مسار الحياة إلى التي هي أرحم وأقوم، وتعين على تقويم الخلقة الباطنة إلى ما هو أسمى وأسلم، واكتساب الأفعال الصالحة، ومداواة التصرفات الخاطئة، والقيام بالتكاليف الشرعية والرياضات التزكوية، في أفق التشرف بحسن التعلق بذات الله تعالى وصفاته وأفعاله وتدبيره، لاستحقاق الدخول في حضرته.

وقد تجسدت معالمه العملية الأولى عندهم في شخص المولى إدريس الأول الذي تعرف عليه المغاربة المبايعون لحاظا لشرف النسب وسعة العلم، وحسن الحال، وصائب الفعال، الذي بلغه بتشرب السنة واستحضار كمال مثالها، وتنزيل مقتضاها العلمي المحاكي، فأثمر له التحقق بشرط الولاية على مستوى العمل والهجرة والسبق إلى البر والمسارعة إلى الخير متانة الفقه، وقوة العمل، وانبساط البر، وحسن الخلق واتساع دائرة النفع بالعلم التي جعلته مفزع الناس في التماس معالم الهدي وتهذيب الباطن، وترسيخ محاسن المكارم، المعززة بالدلالة على مراد الله تعالى والتثبيت في مواطن الاشتباه والاختلاف، والتسكين في حالات الشك والريب وحصول الاضطراب.

ثم تتابع الناس على الاقتداء بهذا النموذج والاجتهاد في تمثله وإعظام قدر من يسير على نهجه من المترئسين في العلوم الملية المختلفة الذين لابسوا صنعة التصوف ومارسوا وظائفها وأحوالها ومقاماتها التزكوية المقاربة لسمات النموذج الأعلى صلى الله عليه وسلم في التوحيد واليقين والإخلاص والعلم والعمل… وثوابتها التربوية الأساسية المشتركة المؤسسة على المعرفة والتسنن والمحبة، والخشية، والزهد، والرضا، والتوكل، والاقتداء، واليسر والتبشير والعطاء، وقصر الأمل، والأخوة، والرحمة، والأدب والمحاسبة، والحياء، والشوق، والأنس، والإخلاص في الأحوال كلها، التي يترجمها الذكر بالورد المستحضر لحقيقة معاني أسماء الله تعالى، والمستبصر بآياته المبصرة في الأنفس والآفاق وما في الملكوت من شواهد الإعجاز، والحامي من الاندراج في مباشري الشهوات ومزاولي المعاصي والخطيئات، الذين عمي عليهم أمر مرجعهم، وخفي عليهم إدراك مبدأهم ومعادهم، فاشتغلوا بالمحسوسات، ومالوا مع أصحاب الشهوات حتى حق عليهم قول الله تعالى فيهم: (إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها، والذين هم عن آياتنا غافلون، أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون) [يونس: 7-8].

وكان المرجع في صناعة هذا العلم المستحدث بمقاماته التخليقية وأحواله التزكوية، -فعلا وقولا وفكرا ونية- إلى تاج العارفين، القيم على مقامات التصوف في اقتدائه، والمتبصر لأسراره في أحواله، مرجع سند جمهور المدارس الصوفية المتسننة المتخلقة في العالم كله، الإمام الجنيد البغدادي الذي سَلَّمت الطرق الصوفية السنية لمنهجه الوفي لوارثة من سلف إلى الخير من أهل القرون الفاضلة فاختاروا مسلكه في التسنن وفي تنزيل شعب الإيمان بجمع لبها الذي به يحصل التعرف على الله وصفاته وأفعاله وكتبه ورسله واليوم الآخر، وكيفية استكمال النفس وارتفاعها إلى معارج الملكوت، في أفق الاستغراق في أمر الآخرة، وتغير الجوهر إلى جنس جواهر المقربين الذين امتازوا بالبراءة من الجهل بالنفس والغفلة ومنتظرات المعاد، وبلوغ ما ينبغي أن تكون عليه الروح لتترقى في مراتب الكمال، فتتنزه عن تطلب الجاه والعلو والغرور، والحظوظ العاجلة والخيالات الدنيوية العاجلة، وتتفطن لتسويلات النفس التي أخبر الله تعالى أنها أمارة بالسوء فتبلغ الوعي بمواقع تزيينات الشيطان الذي أخبر الله أنه كان للإنسان عدوا مبينا.

وقد تواتر النقل عنه في مختلف طبقات الصوفية النقلة؛ أنه كان يقول عن سر تسننه في تعبده وتخلقه وتزهده في كل حاجب عن ملاحظة ذات الله تعالى: علمنا مضبوط بالكتاب والسنة، من لم يحفظ الكتاب ويكتب الحديث ولم يتفقه، لا يقتدى به[17]؛ لأن التصوف من صفاة المعاملة مع الله سبحانه وتعالى، وأصله التفرق عن الدنيا كما قال الحارث بن مالك[18]: عزفت نفسي في الدنيا فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري.[19]

وكان أبرزَ وسائل المدارس الصوفية في مقامات هذا الفن المزكي، التخلق بأخلاق الله الضامن لإدراك شرف ولايته والحامي من نومة الجهالة، وسنة الغفلة، وتهور الفُرْطة، ثم النصح بالاقتداء بالخيار السالفين من أهل الفهم الذين تحققوا بمشيخة العلم في تصفية الباطن، وتنوير القلب، بالجمع بين العلم والعمل، وصون اللسان، وإقامة الأركان، وحسن التخلق، والتوسع في نفع الناس والإحسان إليهم بما يوافق عليه العلم، ويحث عليه حسن الائتساء.

وقد نص الحافظ ابن الجوزي على أثر ذلك في تقويم السلوك في قوله: رأيت الاشتغال بالفقه وسماع الحديث لا يكاد يكفي في صلاح القلب؛ إلا أن يمزج بالرقائق، والنظر في سير السلف الصالحين؛ فأما مجرد العلم بالحلال والحرام، فليس له كبير عمل في رقة القلب؛ وإنما ترق القلوب بذكر رقائق الأحاديث، وأخبار السلف الصالحين؛ لأنهم تناولوا مقصود النقل، وخرجوا عن صور الأفعال المأمور بها إلى ذوق معانيها والمراد بها، وما أخبرتك بهذا إلا بعد معالجة وذوق…[20]

فهو إذا زاوية من زوايا السلوك الحقيقي، ومسلك ضروري في تطهير النفس، واستصفاء الأخلاق، واستعزاز المعالم واستكمال الآداب، والاستنزاه من صدأ المعاصي والترفع عن فتنة العلائق. وهو حقيقة مصطلح الفقه عند من مضى من الخيار الذي كان يعني عندهم معرفة الحق الأول، وعلم طريق سعي الآخرة، وإدراك أنجاس النفس وأمراض القلب، وطريق تقويم السلوك، وسيلتهم المبتغاة لتكميل شروط التزكية الموصلة إلى مقام الإحسان الجامع لكليات الدين الذي به يرفع قفل القلب، وتتحدد الوجهة المطلوبة، وتنكشف حقيقة العلوم المعينة على طهارة القلب من نجاسات الشهوة والغضب والهوى والجاه والشهرة وحب الترؤس والتسلط على العباد؛ والمقنعة بضرورة رفض العقائد الفاسدة، والمقولات الكاسدة؛ كما أن به يستمتع المريد بلذة التقوى والإخلاص لله وحده، وبه يتحقق بتوحيد المطلب العملي الذي يتجلى في الحرية من القيود التي تنازع الإنسان في سيادته على نفسه وشهواته، وإغراءات محيطيه والتقاعس عن أداء الحقوق، والإعراض عن زخارف الدنيا المشغلة عن حق الأمانة والمصدفة عن إظهار مفردات الاستخلاف، والعكوف على الذكر والصلاة والدعاء؛ وبه تسعد النفس المطمئنة وتستعد لسيرها إلى صحبة الرفيق الأعلى، ومعية من تحبه خلص الأبرار؛ فإن المرء مع من أحب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.[21]

 المقطع الرابع: ثابت إمارة المؤمنين

إن حماية هذه الثوابت وضمان تنميتها والعناية بتراثاتها ورجالاتها واستمرار عطاءاتها وإشعاعاتها، ورعاية حق التوحد الجامع المثمر على معانيها وما ارتبط بها من اختيارات، من أكبر منوط بالمشروعية السياسية لإمارة المؤمنين المبنية على البيعة الشرعية التي تتم بوجودها المصلحة الكبرى للدين لاندراجها عند المحققين ضمن أصول شرائعه المرادة لرب العالمين[22]؛ لأنها تجعل على عاتقها هذا الواجب المقدس في حماية الدين وتثبيت الأمن وحفظ النظام وصون الملكية المالية وضمان الكرامة الإنسانية وما تقتضيه التنمية البشرية[23]. تنفيذا لمقتضى العقد الاجتماعي المتجدد، الذي يربط بين الراعي والرعية، لإقامة مظاهر الشريعة، وتثبيت الأمن بجميع مستوياته، والسلم الجمعي بكل مستلزماته، خصوصا الأمن الروحي الذي هو من أكبر مهام إمارة المؤمنين، الذي تحرص عليه بجدية متفردة، لأن الدين والسلطان في ثقافة المغاربة منذ زمن المولى إدريس الأول رحمه الله توأمان، لا قوام لأحدهما إلا بصاحبه.

والمقصد الأسمى من هذا الثابت المتوافق عليه بلا اختلاف بين أهل العلم والعقل والفضل توحيد الأمة على إمام واحد لا يختلف عليه ولا يسمح بمنازعته فيما أهل له، يقوم بمقتضى البيعة الملزمة بتوحيد الأمة على اختلاف لهجاتها في أقاليمها، وحفظ أمنها الروحي في مناحي حياتها، وسلمها الاجتماعي في داخلها وخارجها، وصيانة تراثها التاريخي والاجتماعي المتنوع المادي واللامادي، ورسم الخطى الحكيمة في أفق تقدمها في علومها، وتميزها في معارفها واتخاذ وسائل حفظ دينها من تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، تثبيتا لصوى التدين الزكية، وتصحيحا لصورة الإسلام النقية، بتقويم ما لحقها من تشويه مغرض وحملات شرسة، بفعل تطرف الضالين، وإرهاب المتنطعين الذين يقولون على الله ما لا يعلمون، ويتشبعون بما لا يملكون.

إن التمسك بهذه الثوابت المشتركة في مجال عمل العلماء عزز ما يربط المملكة المغربية والدول الإفريقية الشقيقة والصديقة من روابط روحية ودينية وحضارية، ووحد الجهود، وسهل تبادل التجارب، والجمع بين فقه الدين والانفتاح على قضايا العصر، والاقتراب من هموم المواطنين والإجابة عن تساؤلاتهم وتطلعاتهم، وتلبية ما يمكن من احتياجاتهم، وحماية أمر الدين، وتفعيل أمانات الشريعة بالدعوى إلى السلم، وإشاعة الفكر الديني المتنور، وتسخير القيم الأخلاقية المثلى، لدرء الفتن الكبرى والصغرة، ودعم الأمن الروحي وتثبيت السلم الاجتماعي بمكافحة التطرف ومناهضة التكلف وتجفيف منابع الإرهاب ونقد ما يستند إليه من خطاب، يُلِظُّ به المثقلون بالمناقص، ويجهر بقبحه المتخلفون عن شريف الخصائص، الذين لا يُرتق فتقهم، ولا يرجى رأبهم. عياذا بالله تعالى..

والحمد لله رب العالمين.


 

[1]– انظر تاريخ وواقع التمسك بالعقيدة الشعرية بإفريقيا، تقديم جده حسن جمعة عضو فرع مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة بجمهورية نيجيريا. مجلة العلماء الأفارقة، العدد الثاني، ص: 310. بتصرف.

[2]– ينظر تطور المذهب الأشعري في الغرب الإسلامي، ص: 69 وما بعدها.

[3]– قال أحمد بابا التنبكتي في معراج الصعود، ورقة (2): أنهم- أي أهل السودان- أسلموا بلا استيلاء أحد عليهم، كأهل كنوا وكشن وبرنوا وسغى، ما سمعنا قط أن أحدا استولى عليهم قبل إسلامهم، ومنهم من هو قديم في الإسلام، كأهل مالي أسلموا في القرن الخامس أو قربه، وكأهل بدنوا وسغى…

[4] – ترتيب المدارك، 5/26.

[5] – كتاب الوسيلة بذات الله تعالى وصفاته، 115.

[6]– التمهيد لقواعد التوحيد، لأبي الثناء محمود بن زيد اللامشي، 131.

[7]– الدارمي، برقم 2861.

[8]– الترمذي، برقم 2634.

[9]– شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، 4/358.

[10]– الموطأ برقم 66 بلاغا، ووصله ابن عبد البر في التمهيد، 24/318.

[11]– سير أعلام النبلاء، 15/88.

[12]– أبو الشيخ في الجزء الذي فيه أحاديث أبي الزبير، عن غير جابر، 167؛ والحاكم في المستدرك، 1/68؛ والبيهقي في الكبرى، 1/385، وقال: رواه الشافعي في القديم عن سفيان بن عيينة.

[13]– قال أبو العباس بن خالد الناصري: المعروف أن مذهب مالك ظهر أولا بالأندلس ثم انتقل منها إلى المغرب الأقصى أيام الأدارسة وكذا ظهر بإفريقية ظهورا بينا قبل وجود المغرب بكثير بل قبل استيلاء صنهاجة والعبيديين على المغرب على يد أسد بن الفرات وعبد السلام بن سعيد التنوخي المعروف بسحنون وغيرهما من أئمة المغاربة ثم لما ظهرت دولة الشيعة بإفريقية حاولوا محوه فلم يتيسر لهم ذلك وكان فقهاء المالكية في ذلك العصر معهم في محنة عظيمة منهم ابن أبي زيد والقابسي وأبو عمران الفاسي وطبقتهم ولم يزل الأمر على ذلك إلى أن نصره المعز المذكور جزاه الله خيرا. قالوا: وكان ظهوره بالأندلس على يد الفقيه زياد بن عبد الرحمن المعروف بشبطون فهو أول من أدخله الأندلس وكانوا قبل ذلك يتفقهون على مذهب الأوزاعي إمام أهل الشام لمكانة الدولة الأموية منه فلما ظهر مالك رضي الله عنه بالمدينة وعظم صيته وانتشرت فتاويه بأقطار الأرض رحل إليه جماعة من أهل الأندلس والمغرب كان من أمثلهم وأسبقهم شبطون المذكور وقرعوس بن العباس وعيسى بن دينار وسعيد بن أبي هند وغيرهم أيام هشام بن عبد الرحمن الداخل فلما رجعوا وصفوا من فضل مالك وسعة علمه وجلالة قدره ما عظم به ذكره بالأندلس فانتشر يومئذ علمه ورأيه بها، وكان رائد الجماعة في ذلك هو شبطون كما قلنا وهو أول من أدخل كتاب الموطأ المغرب أتى به مكملا ومتقنا فأخذه عنه يحيى بن يحيى الليثي ثم دخل بعد ذلك إلى مالك فقرأه عليه وعاد إلى الأندلس فتمم ما كان قد بقي من شهرة المذهب المالكي. الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، 1/194.

[14]– انظر تطور الدولة في المغرب، لمحمد شقير، ص: 168.

[15]– عيون الغمامة ونواظر السياسة.

[16]– الاستقصا لدول المغرب الأقصى، 1/199.

[17]– سير أعلام النبلاء، ط الرسالة، 14/67.

[18]– قال ابن أبي شيبة: حدثنا ابن نمير قال: حدثنا مالك بن مغول، عن زبيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كيف أصبحت يا حارث بن مالك؟). قال: أصبحت مؤمنا حقا. قال: (إن لكل قول حقيقة، فما حقيقة ذلك؟). قال: عزفت نفسي عن الدنيا وأسهرت ليلي وأظمأت نهاري؛ وكأني أنظر إلى عرش ربي قد أبرز للحساب، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون في الجنة، وكأني أسمع عواء أهل النار. قال: فقال له: (عبد نور الإيمان في قلبه، إن عرفت فالزم؟). مصنف ابن أبي شيبة، 6/170.

[19]– تلبيس إبليس، 151؛ وانظر: طبقات الشافعية الكبرى، للسبكي، 2/266.

[20]– صيد الخاطر، ص: 228.

[21]– البخاري، برقم 6169؛ ومسلم، برقم 2640.

[22]– قال أبو محمد أبو السعود عبد القادر بن يوسف القصري الفاسي الفهري في (الأجوبة الحسان في الخليفة والسلطان)، ص 141: … على أن ابن عرفة قال: حديث: (من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)؛ وحديث: (من خرج من الطاعة وفارق الجماعة، فمات مات ميتة جاهلية)، يشير لكونه من المعتقدات.

[23]– انظر: كلمة لمعالي وزير الأوقاف، بعنوان: البيعة وحفظ الدين.