يعد أبو عبد الله محمد بن علي بن محمد التميمي المازري[1] أحد أعمدة العلوم الإسلامية الذين أغنوا المكتبة العلمية بتآليفهم القيمة واجتهاداتهم الفريدة، وقد أهله لذلك ما اجتمع في شخصه من صفات الذكاء، والموسوعية، والتبحر في مختلف العلوم.
يقول عنه تلميذه القاضي عياض: “لم يكن في عصره للمالكية في أقطار الأرض في وقته أفقه منه ولا أقوم لمذهبهم، وسمع الحديث وطالع معانيه، واطلع على علوم كثيرة من الطب والحساب والأدب وغير ذلك، فكان أحد رجال الكمال في وقته في العلم، وإليه كان يفزع في الفتوى في الطلب في بلده، كما يفزع إليه في الفتيا في الفقه”.
كان إماما متقنا لعلوم الرواية والدراية، مما رشحه ليظفر بألقاب وتجليات قل من يحوزها، ومن ذلك وصف الإمام الذهبي له بقوله: “الشيخ الإمام البحر المتفنن، كان أحد الأذكياء الموصوفين والأئمة المتبحرين، وكان بصيرا بعلم الحديث”، كما قال عنه ابن فرحون: “إمام بلاد إفريقيا وما وراءها من المغرب، وآخر المشتغلين من شيوخ إفريقية بتحقيقهم الفقه ورتبة الاجتهاد ودقة النظر”.
ولذلك كان طبيعيا أن يكون مرجعا للاحقين عليه من الأئمة الأعلام، إذا ارتضوا منهجه، واعتمدوا مؤلفاته في مواردهم الأساسية.
ومن هؤلاء الشيخ خليل الذي جعله أحد الأربعة[2] الذين ينقل عنهم، ويستشهد بأقوالهم واختياراتهم.
لقد تبدت مكانة الإمام المازري، وتجسدت واضحة جلية، في أعمال علمية متعددة، غطت جل أصناف المعرفة، بما في ذلك علم الطب الذي نال فيه مقام الإمامة.
ومن هذه المصنفات نذكر :
– المعلم بفوائد مسلم.
– التعليقة على المدونة.
– شرح التلقين.
– الكشف والإنباء عن المترجم بالإحياء.
– كشف الغطا عن لمس الخطأ.
– إيضاح المحصول من برهان الأصول.
– تعليقة على أحاديث الجوزقي.
– إملاء على شيماء من رسائل إخوان الصفا.
– النكت القطعية في الرد على الحشوية والذين يقولون بقدم الأصوات والحروف.
– نظم الفوائد في علم العقائد…
سلك الإمام المازري منهجا واضح المعالم، بين الخطوات في استنباطاته الفقهية من أحاديث صحيح مسلم مما شرحه وأخضعه للدرس والبيان، وهي أمور تبرهن على سعة علم الرجل، وعمق اطلاعه على مختلف العلوم والفنون.
وأهم ملحظ يمكن الإشارة إليه في هذا الصدد، أن الإمام المازري جمع في دراسته للنصوص الحديثية بين الرواية والدراية، فقد كانت له رحمة الله تعالى وقفات مع الأسانيد والروايات، كما مع الفقه والفهم.
وإجمالا، يمكن ذكر بعض الملامح العامة لمنهج الإمام المازري في شرحه لصحيح مسلم، والتي نرى أنها عامة ترجع إليها بقية المعالم غير المذكورة في هذه السطور، فيما يأتي:
– عناية المازري بالحديث رواية.
– اهتبال المازري بغريب الحديث.
– مالكية المازري من غير تعصب.
– الحضور الأصولي في استدلال المازري.
إن أهم ما يميز عمل الإمام المازري في شرحه لأحاديث صحيح مسلم تدقيق نظره في أسانيدها[3] وروايتها بالرجوع إلى نسخ الصحيح والمقارنة فيما بينها بما يعينه على الوقوف على صحيح السند وسليم المتن، فقد كان ينظر إلى الحديث نظرة أهل الحديث، ينبه على أوهام الرواة، ويذكر الصحيح من الكلام، مستفيدا في ذلك من اطلاعه على مصادر أصيلة وموارد أثيلة، كتقييد المهمل وتمييز المشكل لأبي علي الغساني الجياني، وتاريخ الإمام البخاري، وكتب أمهات الحديث[4].
ومن أمثلة ذلك قوله: “خرج مسلم في باب استفتاح القراءة بالحمد لله: حدثنا ابن مهران عن الوليد عن الأوزاعي عن عبدة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يجهر بهؤلاء الكلمات: سبحانك اللهم”.
قال بعضهم: هكذا أتى إسناده عن عبدة أن عمر مرسلا، وفي نسخة ابن الحذاء: عن عبدة أن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وهو وهم، والصواب أن عمر، وكذلك في نسخة أبي زكرياء الأشعري عن ابن ماهان وكذلك روي عن الجلودي، ثم ذكر مسلم بعد هذا حديثا عن الأوزاعي عن قتادة عن أنس قال: صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يستفتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين، وهذا هو المقصود في الباب، وهو حديث متصل”[5].
يعد غريب الحديث من أهم الفنون التي يتوقف عليها فهم النصوص الشرعية، لذا ليس بدعا أن نجد الإمام المازري يقف مع الألفاظ، يوضح معانيها، ويبين دلالاتها، ويضبط وجوهها المختلفة، وهو عين ما ألفيناه جليا في شرحه: “المعلم”.
وقد ساعده في ذلك ثقافته اللغوية العميقة التي أتاحت له الاطلاع على كتب المعاجم واللغة، ككتاب أبي عبيد وابن قتيبة والهروي… وهذا ما أغنى الثروة اللغوية للمعلم حتى أضحى من أهم المصادر المفيدة في غريب الحديث[6].
ومن الأمثلة الموضحة لهذا، بيانه لكلمة خداج الواردة في حديث “من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأمر القرآن فهي خداج”.
قال المازري رحمه الله تعالى: “قال الهروي وغيره، الخداج: النقصان، قال: خدجت الناقة، إذا ألقت ولدها قبل أوان النتاج وإن كان تام الخلق، وأخدجته: إذا ولدته ناقص الخلق، وإن كان لتمام الحمل، ومنه قيل لذي الثدية، مخدج اليد، أي ناقصها.
قال أبو بكر رضي الله عنه:قوله فهي خداج، أي ذات خداج، فحذف ذات وأقيم الخداج مقامه على مذهبهم في الاختصار، ويجوز أن يكون المعنى فيه مخدجة، أي ناقصة، فأحل المصدر محل الفعل كما قالوا: عبد الله إقبال وإدبار: وهم يريدون: مقبل ومدبر”[7].
إن مالكية المازري ساطعة ظاهرة لكل من قرأ تآليفه، ونظر إلى اجتهاداته، فقد كان المنهج الاستدلالي المالكي مؤطرا لاختياراته الفقهية واستنباطاته العلمية، لذا كان رحمه الله تعالى منافحا عن مذهب مالك وأصحابه، منتصرا لآرائه، مرجحا اجتهاداته، مستدلا على ذلك بنصوص نقلية، ونظر عقلي، معللا أسباب ما جنح إليه.
ومن ذلك قوله في الانتصار لقول المالكية في حديث مسلم “إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم وليؤمكم أكبركم”: “وأما أمره صلى الله عليه وسلم أن يؤم الأكبر فنحمله على أنهم متساوون فيما سوى السن من الفضائل المعتبرة في الإمامة بدليل قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر (يؤم القوم أفقههم)، وتقديم الأفقه عندنا أولى، ثم القاري بعده، ثم بعد ذلك فضيلة السن، وعند أبي حنيفة: أن القاري أولى من الأفقه. وحجتنا عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أفقههم)، ولأن الحاجة تمس إلى الفقه في الصلاة أكثر من الحاجة إلى معرفة وجوه القراءات، فإن احتج بقوله عليه السلام في حديث آخر: (يؤم القوم أقرأهم) قلنا: فإن أصحابنا تأولوه على أن الأقرأ ها هنا هو الأفقه، لأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتفقهون من القرآن، فأكثرهم قرآنا أكثرهم فقها”[8].
إلا أن دفاعه المستميت عن الإمام مالك، لم يثنه عن مخالفته والقول بخلاف قوله في المسائل التي عنَّ له فيها غير ما عنَّ لمالك، مما جعله يجنح لغير ما جنح إليه.
ولا شك أن في صنيعه هذا موضوعية علمية، وتجردا فكريا من التعصب المذهبي الذي يحجب عن صاحبه ما كان صوابا عند غيره.ففي مسألة الجمع في الصلاتين مثلا، يرى الإمام مالك الجمع بين المغرب والعشاء، ولا يراه بين الظهر والعصر.
يقول الإمام المازري معلقا على قول عالم المدينة: “وأما الجمع في المطر فالمشهور من مذهب مالك إثباته في المغرب والعشاء، وعنه قولة شاذة: أنه لا يجمع إلا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومذهب المخالف جواز الجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء في المطر. واحتج القائلون بالجمع بالحديث الذي فيه (أنه صلى الله عليه وسلم صلى بالمدينة ثمانيا وسبعا). قال مالك: أرى ذلك في المطر. وهذا المعنى تأوله غيره، فقال: بالجمع بين الظهر والعصر على ما جاء في الحديث، ولم يقل مالك بذلك في صلاة النهار، وخص الحديث بضرب من القياس، وذلك أن الجمع للمشقة اللاحقة في حضور الجماعة. وتلك المشقة إنما تدرك الناس في الليل، لأنهم يحتاجون إلى الخروج من منازلهم إلى المساجد. وهم في النهار متصرفون في حوائجهم، فلا مشقة تدركهم في حضور الصلاة.
وتأويل الحديث على أنه كان في مطر يضعفه ما في أحد طرق هذا الحديث، وهو قول ابن عباس (جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء في المدينة في غير خوف ولا مطر)، فقد نص ابن عباس على أنه لم يكن في مطر”[9].
إن النظر في اجتهادات الإمام المازري واستنباطاته الفقهية، يؤكد قوة ملكته الفقهية، وعمق استدلالاته الأصولية، ويبرهن من جهة أخرى على علو كعب الإمام في علوم الآلة ولا سيما علوم أصول الفقه وقواعد اللغة، إذ مكنه ذلك من امتلاك ناصية منهج فقهي سديد، أهم معالمه إعمال القواعد العلمية، وتوظيف الضوابط المنهجية في استمداد الأحكام الفقهية.
ولتقريب ذلك نقدم مثالين يوضحان دراية المازري بالبحث الأصولي.
أخد الإمام المازري برأي الجمهور في تخصيص المقطوع بالمظنون، إذ يرى أن عموم القرآن الكريم يخصص بخبر الواحد.
ومن أمثلة ذلك قوله بتخصيص العبد من عموم الأمر بالسعي إلى الجمعة.
قال رحمه الله تعالى: “واختلف الناس أيضا هل تجب على العبد والمسافر؟ فأسقطها عنهما مالك وأكثر الفقهاء، وأوجبها عليهما داود. ووجه الخلاف ورود خبر الواحد بالتخصيص، وهو قوله (أربعة لا جمعة عليهم). فهل يخص عموم القرآن بأخبار الآحاد أم لا؟ فيه اختلاف بين أهل الأصول. وهذا على القول بأن العبد يدخل في الخطاب مع الحر، وأما إذا قلنا: إنه لا يدخل في خطاب الأحرار، لم يكن ها هنا عموم عارض خبر واحد، بل يكون الاستمساك بالأصل واستصحاب براءة الذمة في حقه هو الأصل المعتمد عليه، وعلى أن أيضا هذا الخبر الوارد فيه ذكر: (أربعة لا جمعة عليهم)، وعد فيه المسافر والعبد لا يعارضه الخبر الذي ذكرناه من كتاب مسلم، ولأن المسافر رد من أربع الى ركعتين لمشقة السفر، والخطبة في الجمعة أقيمت مقام ركعتين، فلو أوجبناها عليه لأوجبنا عليه الإتمام، وذلك لا يصح، ولأن العبد لو خوطب بالجمعة لوجب عليه السعي وإيقاع عبادة في مكان مخصوص وذلك لا يلزمه كالحج.
فإن قيل: هذا يدل على أنه إنما سقط ذلك عنه لحق السيد، فلو أذن له سيده وأسقط حقه هل يستقر عليه الوجوب لزوال العلة المسقطة له؟ قيل اختلف أصحابنا في ذلك ولم يختلفوا في أن الحج لا يجب عليه بإسقاط السيد حقه”[10].
يعد مفهوم المخالفة (دليل الخطاب) من أهم أصول الإمام مالك التي يعتمدها في بيان المسكوت عنه من النص، وقد اعتمده الإمام المازري، كما غيره من الأدلة، في شرح وبيان دلالات النصوص الحديثية.
ومن ذلك إعماله في سياق شرحه لمسألة قضاء الصلاة لمن تركها متعمدا حتى خرج وقتها.
قال رحمه الله تعالى: “وأما من ترك الصلاة متعمدا حتى خرجت أوقاتها، فالمعروف من مذاهب الفقهاء أنه يقضي، وشذ بعض الناس وقال: لا يقضي، ويحتج بديل الخطاب في قوله: (من نسي صلاة أو نام عنها فليصليها)، دليله أن العامد بخلاف ذلك، فإن لم نقل بدليل الخطاب سقط احتجاجه، وإن قلنا بإثباته قلنا: ليس هذا ها هنا في الحديث من دليل الخطاب، بل هو من التنبيه بالأدنى على الأعلى، لأنه إذا وجب القضاء على الناسي مع سقوط الإثم فأحرى أن يجب على العامد. والخلاف في القضاء في العمد كالخلاف في الكفارة في قتل العمد، والخلاف فيهما انبنى على الخلاف: هل ما في الحديث المتقدم والآية المتقدمة من دليل الخطاب أم من مفهوم الخطاب؟”[11].
[1]– عالم من علماء القرن السادس الهجري تنظر ترجمته مفصلة في المصادر الآتية:
– الغنية فهرست شيوخ القاضي عياض ص 65، تحقيق ماهر زهيرجرار، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى 1402هـ- 1982م.
– الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب لابن فرحون ج 2/ 250 – 252، تحقيق الدكتور محمد الأحمدي أبو النور، دار التراث للطبع والنشر- القاهرة.
– سير أعلام النبلاء للذهبي ج20/ 104- 107، تحقيق مجموعة من المحققين بإشراف الشيخ شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثالثة 1405هـ- 1985م.
– شجرة النور الزكية في طبقات المالكية لمحمد بن محمد مخلوف ج 1/ 184، دار الكتب العلمية- لبنان، الطبعة الأولى 1424هـ- 2003م. وغيرها.
[2]– المقصود بالأربعة: اللخمي، وابن يونس، وابن رشد الجد، والمازري.
[3]– انظر على سبيل المثال تحقيقه في سند حديث “الوضوء مما مست النار”، ج 1 / 262. وتحريره لسند حديث طرقه صلى الله عليه وسلم لفاطمة، ج 1/ 304 وضبطه لحديث: “خبت وخسرت إن لم أعدل”، ج 2/ 24.
[4]– انظر دراسة المحقق في حديثه عن مصادر المعلم، ج1/ 139.
[5]– المعلم، ج 1/ 262.
[6]– ينظر على سبيل المثال شرحه للألفاظ الغريبة الآتية: معنى القلاص – معنى الغلول – معنى الحمة – معنى الضحضاح – معنى المركن – معنى دغلا – معنى السخاب – معنى.
[7]– المعلم، ج 1/ 263.
[8]– المعلم ج 1 / 292 – 293.
[9]– المعلم ج 1 / 297 – 298.
[10]– المعلم ج 1 / 315 – 316.
[11]– المعلم ج 1 / 293.