رسالة القرن للسلطان سيدي محمد بن عبد الله




رسالة القرن للسلطان سيدي محمد بن عبد الله

 بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه.

وبعد:

فقد قال الله سبحانه: ﴿إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون﴾ [سورة النحل: 90].

وقال تعالى: ﴿الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور﴾ [سورة الحج: 41]. وقال عليه السلام: «كلكم راع ومسؤول عن رعيته».

وقد بلغنا ما حدث في العامة من عموم الجهل بالتوحيد وأصول الشريعة وفروعها حتى ارتكبوا أمورا تقارب الكفر أو هي الكفر بعينه، وذلك من خلو القبائل من طلبة العلم العاملين وقلة المرشد المعين حتى لا تجد في القرية الكبيرة عالما يرجعون إليه في مسائل دينهم ونوازل أحكامهم ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، وذلك من تفريط العمال وقلة اعتنائهم بالدين والعهدة عليهم في ذلك؛ لأنهم ينبغي لهم الغبطة في العلم والعلماء وتقريب أهل الخير والدين، والاقتداء بالأولياء والصالحين، وإعانة النجباء من قبيلتهم على طلب العلم من محله وأخذه عن أهله؛ ففي الحديث: «طلب العلم فريضة». وقال عليه السلام: «اطلبوا العلم ولو بالصين». وفي الحديث: «العالم في قومه كالنبي في أمته».

فإن العالم إذا كانت بطانته صالحة كانت أعماله جارية على الصلاح والسداد، وإذا كانت بطانته على غير هداية كانت أحكامه مخالفة للشريعة فضل وأضل، وقد قال عليه السلام: (ما من وال إلا له بطانتان؛ بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر، وبطانة لا تألوه خبالا، ومن وقي بطانة السوء فقد وقي). وقال عليه السلام: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا من صدور الرجال ولكن يقبضه بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا». وقال عليه السلام: «بدأ الدين غريبا وسيعود غريبا فطوبى للغرباء». وقال عليه السلام: «يأتي على الناس زمان القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر».

وهذا آخر الزمن الذي أخبر الصادق المصدوق عليه السلام بفساده وعموم الفتن والأهواء والبدع الدالة على اقتراب الساعة، نسأل الله حسن الخاتمة. فينبغي للمؤمن المشفق على نفسه عموما وخصوصا العمال البحث عن دينهم ومعرفة أحكام ما دفعوا إليه وقلدوه من أمر رعاياهم ليسيروا على منهاج الشرع ويرتكبوا ما ينجيهم مع الله، ففي الحديث: «لا يحل لامرئ مسلم أن يقدم على أمر حتى يعلم حكم الله فيه». وفي الحديث: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة أحيانا مخافة السآمة علينا».

فأول ما ضيعت العامة أصول الدين وفروعه وتهاونت بالإسلام وقواعده؛ فمنه التوحيد الذي هو أساس الدين والقطب الذي عليه المدار، وسلامة العقيدة هي أصل الخير والنجاة من النار. فينبغي العناية به أتم، والمؤمن بأصل دينه أهم.

ومنه التهاون بالصلوات الخمس والجهل بوسائلها كالاستبراء والوضوء والطهارة والأذان. والصلاة هي عمود الدين وذروة سنامه، قال الله سبحانه: ﴿وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة﴾ [سورة البينة: 5]. وقد ذكرها الله سبحانه في آيات كثيرة من كتابه وحض على إقامتها والمحافظة عليها، قال سبحانه: ﴿حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين﴾ [سورة البقرة: 238]. وقال سبحانه: ﴿والذين هم على صلواتهم يحافظون أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون﴾. [سورة المؤمنون: 9 – 11]. وقال عليه الصلاة والسلام: «الصلاة عماد الدين». وقال: «بين الرجل والشرك والكفر ترك الصلاة». وقال: «من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر جهارا». وقال عليه السلام: «أول ما يحاسب عليه العبد الصلاة فإن صلحت صلح سائر عمله وإن فسدت فسد سائر عمله».

وكتب سيدنا عمر رضى الله عنه: «إن أهم أمركم عندي الصلاة، فمن حافظ عليها فهو لما سواها أحفظ، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع». وقد جعلها الله سبحانه للمحافظين عليها واعظا وناهيا فقال: ﴿إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر﴾ [سورة العنكبوت: 45]. وقال سيدي خليل: «ومن ترك فرضا أخر لبقاء ركعة بسجدتيها من الضروري، وقتل بالسيف حدا، ولو قال: أنا أفعل، وصلى عليه غير فاضل».

ومنه أمر الزكاة الواجبة في الأموال والأنعام والحبوب لمن حال عليه الحول وكمل عنده النصاب، وقد حدث فيها من الخيانة والتدليس وتقاعد الناس عليها والامتناع من إخراجها إلا بالقهر ما صيرها جباية، وثقلت على العامة، حتى صارت مغرما مع أنها زيادة في الأموال وبركة فيها وحفظ لها.

الزكاة أخت الصلاة، فكما أن الصلاة طهرة للأبدان، الزكاة طهرة للأموال، قال تعالى: ﴿خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم﴾ [سورة التوبة: 103]. وفى الحديث عنه عليه الصلاة والسلام: «ما مانع الزكاة بمسلم». وعنه صلى الله عليه وسلم: «حصنوا أموالكم بالزكاة». وعنه أيضا: «ما ضاع مال في بر ولا في بحر إلا بترك الزكاة فيه».

وقال تعالى: ﴿والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون﴾ [سورة التوبة: 34، 35]. وفى الأثر: «كل مال لم تؤد زكاته فهو كنز». وعنه عليه السلام: «ما من صاحب مال لا يؤدى حق الله فيه إلا مثل له يوم القيامة شجاع أقرع له زبيبتان يأخذ بلهزمتيه؛ أي: شدقيه، يقول: أنا مالك أنا كنزك». وعنه صلى الله عليه وسلم: «ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي زكاتها إلا جاءت يوم القيامة أعظم ما كانت وأسمنه تنطحه بقرونها وتطؤه بأخفافها كلما نفدت أخراها عادت عليه أولاها حتى يقضي بين الناس».

ومنه صيام رمضان الذي أوجبه الله على كل عاقل بالغ صحيح حاضر، قال الله سبحانه: ﴿شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس﴾ الآية. [سورة البقرة: 185]. وقد ضيعت العامة حقوقه وتهاونوا بصيامه حتى إنه بلغنا مجاهرة بعضهم بأكله من غير نكير، ومن صامه صامه من غير قيام بحقه ولا معرفة بما يصحح صومه أو يفسده، وأكثرهم يصومون ولا يصلون، وفي الحديث: «الصيام جنة ما لم تخرقه». وعنه عليه السلام: «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه». وعنه عليه السلام: «من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه».

ومنه الحج للمستطيع، قال تعالى: ﴿ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا﴾ [سورة آل عمران: 97]. والاستطاعة هي الزاد والراحلة والأمن على النفس والمال، وقال عليه السلام: «من حج هذا البيت ولم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، وقال عليه السلام: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة».

وقد سمعت العامة فضله وجحدوا حكمه وارتكبوا فيه من البدع والرياء والسمعة ما أفسدوه عليهم، فإن الحاج ينبغي له اختيار الحلال المحض لذلك، والمحافظة على الصلوات الخمس في أوقاتها، ومعرفة أحكامه وسننه، وترك المراء والجدال والرفث والفسوق وحفظ الجوارح من المعاصي، وخصوصا الفرج واللسان، قال الله سبحانه: ﴿فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج﴾ [سورة البقرة: 197]. وقد صار اليوم عند العامة لهوا ولعبا، وجل العامة لا يقصد به إلا التسمية بالحاج فقط ولا يقصد به فرضا ولا غيره، فتجد الرجل يتوجه للحج ومن حين خروجه وهو متلبس بالمعاصي من أكل الحرام وترك الصلوات والتهاون بأمور الدين، ولا يعرف ما يأتي وما يذر، ويرجع وقد توجه لفرض فعطل فروضا، ولم يدر مسنونا ولا مفروضا، أولئك الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.

ومن أركان الدين الجهاد في سبيل الله وهو فرض كفاية ما لم يفجإ العدو، فإن فجأ العدو كان فرض عين، قال سيدي خليل: «وتعين بفجإ العدو وإن على امرأة وصبي…». وقال الله تعالى: ﴿كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم﴾ الآية. [سورة البقرة: 216]. وقال: ﴿وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم﴾. [سورة البقرة: 244]. وقال: ﴿يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة﴾ الآية. [سورة التوبة: 123]. وقال سبحانه: ﴿وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون﴾.  [سورة التوبة: 41]. وقال: ﴿الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون﴾ [سورة الحجرات: 15]. وقال: ﴿يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم﴾ الآية. [سورة الصف: 10]. وقال: ﴿ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء﴾ الآية. [سورة آل عمران: 169]. وقال عليه السلام: «الجهاد رهبانية أمتي». وقال: «لكل نبيء حرفة وحرفتي الجهاد في سبيل الله». وقال: «جعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعلت الذلة والصغار على من خالف أمري». وقال: «من مات ولم يغز ولم ينو الغزو مات ميتة جاهلية». وقال: «ما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا».

فينبغي للمؤمن الموقن أن يسمع ويطيع لما أمر الله به من الجهاد، ويستعد بما قدر عليه من سلاح وفرس جواد، وتعلم رماية وفروسية ليأجره الله على نيته، ويثيبه على حكم قصده وطويته، قال تعالى: ﴿وأعدوا لهم ما استطعتم…﴾ [سورة الأنفال: 60]. وليتعلم ما يتعلق به من الأحكام من حسن النية والإخلاص وصدق العزيمة، لتكون كلمة الله هي العليا، ويشعر نفسه تصديق ما وعد الله به من نصر الإسلام وأهله وخذلان الكفر وشيعته، ويعرف حرمة الفرار من الزحف وما أعد الله لمن مات شهيدا مقبلا، وما أعد الله لمن مات مدبرا ليكون على بصيرة فيما يأتي وما يذر.

وهذا الجهل الواقع في قواعد الدين إنما هو من قلة العلم وعدم مخالطة العلماء وسؤالهم عن مسائل الشريعة المطهرة، فتجد أحدهم بصيرا بأمور معاشه وبيعه وشرائه جاهلا بأمور دينه واعتقاده، غافلا عن معاده لعدم اعتنائه بآخرته، وقلة نظره في أمور عاقبته، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وقد عم ذلك حتى صار المعروف منكرا، والمنكر معروفا، والسنة بدعة، والبدعة سنة، وارتكبت العامة أمورا قريبة من الكفر أو هي الكفر بعينها.

فمنها فساد البيع والشراء والمعاملات؛ وهو سلف الدراهم بالزيادة أو كراؤها بكذا في الشهر لكل مثقال وغير ذلك من أنواع الربا، وقد شدد الله في أمره وآذن المصر عليه بالحرب فقال سبحانه: ﴿الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس﴾ الآيات. [سورة البقرة: 275]. وقال عليه السلام: «من نبت لحمه من سحت فالنار أولى به». وقال صلى الله عليه وسلم: «لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهده».

ومنها فساد الأنكحة والتساهل فيها من خطبة أحدهم على خطبة أخيه والدخول على المطلقة قبل تمام العدة وغير ذلك من المنكرات، وأشنعها وأبشعها ما يرتكبه الأشياخ الفجرة من بيع النساء على ما بلغنا؛ وصورة ذلك أن يقبض الرجل وتوظف عليه الذعيرة فلا يفي بها ماله وتكون عنده الزوجة المرغوب فيها فيتحمل الراغب فيها بما بقي من الذعيرة ويسلمها له، ويجعلها العدول الفجرة في صورة خلع، ويدخل بها الراغب قبل وفاء العدة، وهذا وشبهه من الإلحاد في الدين، والخروج عن شريعة سيد المرسلين.

ومنها التساهل في أمر الزنا والاكتفاء فيمن ثبت عليه بالقبض والذعيرة، وذلك من المنكر الذي لا يرضاه الله ورسوله والمؤمنون؛ لأنه خرق الشريعة وإبطال لأحكام القرآن، وقد قال تعالى: ﴿ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا﴾ [سورة الإسراء: 32]. وقال سبحانه: ﴿الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة﴾ [سورة النور: 2]. هذا في البكر وأما الثيب فالرجم، فقد قال عليه السلام: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن». وقال: «الزنا بريد الفقر، ولا ظهر في قوم الزنا إلا فشا فيهم الموت».

ومنها التساهل في أمر السرقة والاكتفاء برجوعها وزجر السارق، وهذا مخالف للشرع، مبطل لحكمه الذي هو القطع، قال الله سبحانه: ﴿والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما﴾ الآية. [سورة المائدة: 38]. وقال عليه السلام: «والله لو سرقت -وذكر عضوا شريفا من ذات شريفة حاشاها من ذلك- لقطعت».

ومنها تسلط الأشياخ على نسوة رعاياهم بالاحتيال على من كان تحته زوجة حسناء بقبضه حتى يتوصل للفاسد في زوجته.

ومنها التساهل في أمر الدماء التي شدد الله فيها وأمر بالقصاص فقال سبحانه: ﴿يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى﴾ [سورة البقرة: 178]. وقال: ﴿ولكم في القصاص حياة﴾ [سورة البقرة: 179]. وقال سبحانه: ﴿ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا﴾ [سورة الإسراء: 33]. فتجد القاتل يسبق إلى الشيخ أو العامل للإعلام والرشوة ليبطل حق المقتول ودعوى أوليائه إن رفعت إليه، ويسعى في إبعاد التهمة عنه، وربما يتجرأ على الله بقبض أولياء الدم ليدحض دعواهم، ويحسم شكواهم.

إلى غير ذلك من المنكرات التي حدثت في الوقت نسأل الله السلامة، فإن الشر في الزيادة كما أخبر صلى الله عليه وسلم، فيجب على من ولاه الله أمرا أن ينصح لنفسه ولرعيته جهد الاستطاعة، ويحملها على اتباع السنة والجماعة، ويزجر من قصر في دين الله وخالف أمره وارتكب ما نهى عنه بقدر معصيته، ويقوم بأمر الله فيهم وطاعته، ويبرأ بنفسه فيحملها على منهاج الحق والشريعة، فإن الرعية على دين رئيسها، فحينئذ ينفع تعليمه ويقبل ما يقول، ويلزم كل دوار وجماعة مشارطة طالب علم يرجعون إليه في أمر دينهم وتعليم صبيانهم وجهالهم، ويقوم بالأذان والصلوات الخمس في أوقاتها. والجماعة التي لم تفعل ذلك يزجرهم ويعاقبهم، ويختار الأشياخ أهل الدين الذين يقومون بذلك، ويستعين عليه بالقضاة أهل العلم والعمل الذين يتقون الله ويتحرون في أحكامهم، ومن ثبت عليه حد من حدود الله شرعا يطالعنا به لنأمر بإنفاذ حكم الله فيه. ويشدد على أهل الجرائم والفساد، ويرفق بالضعفاء والمساكين، فما سمعنا عاملا قبض أحدا على ترك الصلاة أو ترك الوضوء أو عاقبه على قلة دينه أو أدبه على قول أو فعل خارج عن الشرع العزيز، وإنما يبلغنا قبض العمال على الذعيرة أو مخالفة الشيخ أو الغوغة عليه أو غير ذلك من الأغراض والشهوات الدنيوية التي لا تعلق لها بالدين، مع أن القيام بأمور الدين أولى، والاهتمام بالاستقامة فيه أهم، ولو استقام دين العامة لاستقام أمر دنياهم. فينبغي للعاقل إيثار أهل الدين على الدنيا، ففي محض حق الله تجب المبادرة، وفي الشمائل: «كان صلى الله عليه وسلم لا يغضب لنفسه إلا إذا انتهكت محارم الله فلا يقوم لغضبه شيء».

فمن وفقه الله للاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم فقد رشد واهتدى، ومن حاد عن سبيله فقد غوى واعتدى، فإنه عليه السلام تركنا على المحجة البيضاء لا يزيغ عنها إلا شقي. وليجعل أموره كلها جارية على الكتاب والسنة ويسأل العلماء عما لم يعلم، ويرفع القضايا الشرعية للقضاة، ويأمرهم باختيار الشهود أهل العدالة والدين ليتم له من ذلك ما أراد، ومن ظهرت عليه جرحة في شهادته ينكل به ويمنعه من الشهادة لينزجر به غيره وتجري أمور الشرع على مقتضاها، فإن بصلاح الشهود تستقيم أمور الشرع؛ لأن بهم عصمة الدماء والأموال والأنساب. وصلاح الشهود بصلاح القاضي، وصلاح القاضي بالعلم والتقوى والورع ومعونة العامل على تنفيذ أحكامه. فمن قام بهذا من العمال فقد نال رضى الله ورسوله ورضانا وفاز بخير الدارين، فإن بالعدل ثبات الولاية وملاك أمرها، ولا يتم ذلك إلا بمشاورة الصلحاء والاهتداء بهديهم، فإن مصاحبة الأخيار ترفع الأقدار وتبلغ منازل الأبرار، وقد قيل: «والله ما أفلح من أفلح إلا بصحبة من أفلح». ولا يقال: «فسد الزمان وقل أهل الدين، وفقد الناصر والمعين». فإن من قام بالله وجد في إقامة شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعزمة صادقة رزقه الله المعونة على ذلك، والتوفيق لسلوك تلك المسالك، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، ﴿ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز﴾ [سورة الحج: 40].

ومن حاد عن هذا السبيل من العمال وقصر في نصح رعيته ولم يحملها على أفضل الأخلاق والأعمال، فقد تعرض لسخط الله ومقته وحلول العقوبة المعجلة به ولا يلوم إلا نفسه ولا يضر إلا رأسه.

ولتكن نسخة من هذا الكتاب عند كل شيخ وكل طالب، ليبلغ الشاهد الغائب، ولنخرج من عهدة التقليد، ومن خالف الشرع أو حكم بغير ما أنزل الله أو رضى بذلك فحسابه على الله، قال الله سبحانه: ﴿وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله﴾ [سورة الحشر: 7]. وقال: ﴿فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم﴾ [سورة النور: 63]. وقال تعالى: ﴿ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون﴾ [سورة المائدة: 45]. ﴿فأولئك هم الفاسقون﴾ [سورة المائدة: 47]. ﴿فأولئك هم الكافرون﴾ [سورة المائدة: 44].

فها نحن قد ذكرناكم وبصرناكم، وعرفناكم مرادنا فيكم وقلدناكم، وعلى سبيل النجاة دللناكم، فمن أحسن فلنفسه ومن أساء فعليها، فاجعلوا هذا الكتاب نصب أعينكم وتدبروا ما فيه ببصيرة نافذة وعقول حاضرة لتعملوا بمقتضاه. والله يوفقكم لما يحبه ويرضاه والسلام.

 

[المرجع: كتاب (إتحاف أعلام الناس بجمال أخبار حاضرة مكناس) لابن زيدان عبد الرحمن بن محمد السجلماسي (ت. 1365)، تحقيق: علي عمر، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة – جمهورية مصر العربية، ط.1: (1429هـ-2008م). ج.3، ص. (254-263)].