إمارة المؤمنين وواجب الحفاظ على الدين




د. عبد الحميد العلمي (جامعة القرويين بفاس)

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فمن المعلوم أن إمارة المومنين صفة حكمية توجب لمن قامت به الحفاظ على الدين ورعاية مصالح المسلمين. والناظر في واجب أمير المومنين جلالة الملك محمد السادس أعز الله أمره فيما يرجع لحراسة الدين، يجده قائما على تعلقين:

أحدهما: وجودي ويتحقق وجه الحفظ فيه بالعمل على ما يثبت أركانه، ويقوي بنيانه.

والثاني: عدمي ويتصور الحفظ فيه بالعمل على منع كل ما يمس بكلياته أو يفرط في جزئياته.

وسأعمل من خلال ذينيك التعلقين على بيان مظاهر من جهود أمير المؤمنين في تحقيق قصد الشارع من الحفاظ على الدين.

الحفظ الوجودي

بابه كما في عبارة الماوردي: “حفظ الدين على أصوله المستقرة وما أجمع عليه سلف الأمة”

وقد استقرت أصول هذا الدين على شعب الإيمان والإسلام والإحسان، والثابت أن جهود مولانا الإمام بادية للعيان غنية عن البرهان، إذ كيف يصح في الأفهام شيء، إذا احتاج النهار إلى دليل، ومن تجليات جهوده نصره الله في الحفظ الوجودي:

أ ـ مباشرة المهام الدينية المنصوص عليها في النقول الشرعية، وبموجبها يعتبر أمير المؤمنين السلطة الدينية العليا في البلاد، إليه يوكل النظر في “حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها”.

والقول بالحمل على المقتضى الشرعي هو من باب الإمامة العظمى القاضية بخلافة الرسول الله صلى الله عليه وسلم في حفظ الدين والعمل على حراسته وحفظه.

ب ـ إظهار الشعائر الإسلامية، وتولي الخطط الدينية؛ لأن إمارة المؤمنين نيابة عن الرسول صلى الله عليه وسلم من حيث كونه الإمام الأعظم والقاضي الأعلم، والمفتي الأحكم، وللعمل على صيانة تلك الشعائر، فإنه يجوز بالإذن الشرعي أن يعيّن جلالته من يمثله في ذلك الحفظ سواء تعلق الأمر بالإمامة في الصلاة وحضور الخطب والجُمَع، أو في الفصل في المظالم والخصومات، أو النظر في شؤون الحسبة والولايات، أو بالإعلان عن حلول الأعياد والمناسبات أو بمتابعة أحوال الحجيج في الأيام المعلومات.

فكل ذلك متحقق وفق الرعاية السامية لأمير المؤمنين وبتعليماته الشريفة الضامنة للحفظ الوجودي لهذا الدين الحنيف.

ج- تأهيل الشأن الديني من خلال احترام القيم الإسلامية التي درج المغاربة على التمسك بها مذهبا وعقيدة وسلوكا، والعمل على إقرارها تحقيقا للوحدة وضمانا للأمن الروحي.

جاء في الظهير الشريف رقم 1.08.16 الصادر في 20 من شوال 1429هـ 20 أكتوبر 2008م المتعلق بإعادة تنظيم المجالس العلمية: “بناء على مقتضيات الدستور التي تخّول لجلالتنا بصفتنا أمير المؤمنين واجب السهر على حماية وصون القيم والتعاليم الإسلامية للمغاربة المسلمين فيما يتصل بصون عقيدتهم وممارسة شعائرهم بما ينسجم مع روح ديننا الإسلامي الأصيل، ويتماشى مع نهج أسلافنا المنعمين من عقيدة أشعرية ومذهب مالكي وصوفية سنية”.

فتلك ثوابت تعتبر من خصوصيات الفكر الديني بالمغرب، إيمانا منه حفظه الله بما لها من آثار إيجابية على تحقيق الوحدة والاطمئنان، فقد حرص على توطيد أركانها، وإقامة دعائمها، والسهر على متابعتها في كل المناسبات، من ذلك على سبيل المثال الرسالة الملكية الشريفة التي بعث بها إلى المشاركين في الدورة الوطنية الأولى للقاء سيدي شيكر للمنتسبين للتصوف يوم19 شتنبر 2008م، والتي ورد فيها: “وحينما أضفينا سابغ رعايتنا السامية على اللقاء الأول، من لقاءات سيدي شيكر العالمية، للمنتسبين إلى التصوف، فقد أبينا إلا أن نؤكد حرص جلالتنا الشريفة، على صيانة القيم السامية، والمثل العليا، التي التزم بها سلفنا الصالح، في هذا البلد الأمين، والنهوض بما طوقنا الله به، من أمانة إمارة المؤمنين، القائمة على رعاية شؤون الدين”

ومنه أيضا ما ورد في خطابه أعزه الله خلال ترؤسه لافتتاح الدورة الأولى لأعمال المجلس العلمي الأعلى بالقصر الملكي بفاس يوم 8 يوليوز 2005م بشأن مذهب الإمام مالك وموطئه ونصّه: “كما نكلف اللجنة الدائمة لإحياء التراث بالعمل على تحقيق كتاب الموطإ لإمامنا مالك بن أنس رضي الله عنه تحقيقا علميا متقنا يليق بموضوعه، وبالمكانة التي يحظى بها لدى المغاربة، وإننا ننتظر من هذه اللجنة استدراك ما فات طبعاته السابقة، وذلك بالرجوع إلى مخطوطاته المغربية الفريدة؛ ليطبع في حلة وطنية أصيلة جديرة بالمغرب كمنارة مشعة للفقه المالكي”.

دـ تفعيل الإصلاح الشامل للشؤون الدينية، وذلك بهيكلة المؤسسات وضبط الآليات وما يتبعها من الأمور الخادمات الراجعة إلى حفظ الدين على المستوى الوجودي كما تقدم.

والناظر في نص الخطاب الذي ألقاه جلالته خلال ترؤسه للمجلس العلمي الأعلى بتطوان بتاريخ 27/09/2008م يجده إطارا عاما لذلك الإصلاح متضمنا لإنجازات أهمها:

ـ إعادة هيكلة وتأهيل وزارة الأوقات والشؤون الإسلامية.

ـ إعادة تنظيم المجلس العلمي الأعلى، والمجالس العلمية المحلية.

ـ إقامة هيئة مرجعية تختص وحدها بإصدار الفتاوى الشرعية.

ـ إحداث مجلس علمي للجالية المغربية بأوروبا.

ـ إحداث الرابطة المحمدية للعلماء.

ـ تفعيل دور المساجد القلب النابض لإقامة شعائر الله تعالى.

ـ تأطير وتأهيل أئمة المساجد.

ـ إعفاء بناء المساجد من الضريبة على القيمة المضافة بنسبة خمسين في المائة.

ـ تمكين القيمين الدينين من التغطية الصحية.

ـ تدشين مرحلة جديدة من الإصلاح الديني بإطلاق خطة رائدة هي ميثاق العلماء باعتبارها نموذجا للتوعية والتنوير.

ومما ورد في نص هذا الخطاب:

“وإننا لعازمون على المضي قدما للارتقاء بالشأن الديني للمملكة إلى ما تتطلعون إليه وكافة رعايانا الأوفياء من تأهيل وتجديد باعتباره في صلب الإصلاحات الوطنية الحيوية التي نقودها، وفي مقدمتها توفير الأمن الروحي والحفاظ على الهوية الدينية الإسلامية المغربية المتميزة بلزوم السنة والجماعة والوسيطة والاعتدال، والانفتاح والدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وما يرتبط بها من مبادئ الإسلام السمحة”.

إن الحديث عن جهود أمير المؤمنين في حماية بيضة الدين، وصون عقيدة المسلمين لا ينحصر فيما ألمعت إليه أعلاه، لأن المتتبع لإنجازاته يعجز عن الإحصاء، ويصعب عليه الاستقراء.

فماذا عن جهوده نصره الله في حفظ الدين من جانب العدم؟

الحفظ العدمي

بابه الذب عن الدين ودرء الاختلال الواقع أو المتوقع فيه، ومعلوم أن الحفظ الوجودي له حظ في النهوض بالحفظ العدمي، لذا فلا سبيل إلى اكتمال عقد الحماية إلا بهما. وذلك لدخولهما في الضروريات المنصوص عليها في المقاصد الشرعية، قال أبو حامد الغزالي: “لا يتمارى متديّن في أن الذب عن حوزة الدين والنضال دون بيضته، والانتداب لنصرته وحراسته أمر ضروري واجب لا بد منه”.

فجمعه بين الوجودي والعدمي تأكيد لقصد الشارع على فرضية القيام بمهام الذود عن الدين من زيغ الضالين وشبه المبطلين.

وهذا ما أكده صاحب الأحكام السلطانية عندما قرر أن من واجب الإمام متابعة ما يعود على الدين بالنقصان فإذا “زاغ ذو شبهة أوضح له الحجة، وبيّن له الصواب، وأخذه بما يلزم من الحقوق والحدود ليكون الدين محروسا من خلل والأمة ممنوعة من زلل”.

ومسألة إقامة الحدود وتشريع العقوبات مما يدخل في الحفاظ على الدين من جانب العدم، كذا يدخل فيه منع الطوائف الضالة والمتطرفة من إشاعة الأفكار المغرضة، وبث مظاهر التفرقة والفوضى بين الناس.

ولأمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس نصره الله جهود تذكر في الباب باعتباره أعلى سلطة دينية في البلاد.

فبحكم ما ناطه الله به من أمر الإمامة العظمى، وبحكم صلاحيته الدستورية في إمامته الكبرى، فقد جعله الله قائما على نصرة الدين، ودرء كل خطر يتعلق بشعائر المسلمين، يتجلى ذلك في التشريعات القاضية بمتابعة من ثبتت إدانته في المس بهذا الأصل العظيم.

جاء في ديباجة الظهير الشريف المتعلق بالرابطة المحمدية للعلماء:

“وقياما بالأمانة المنوطة بنا بوصفنا أميرا للمؤمنين، وما تستلزمه الإمامة العظمى من واجب حراسة الدين وإقامة شعائره وشرائعه، وتمنيع قيمه ومكارمه مما قد يلابسها من ذرائع الزيغ والانحراف أو شوائب التنطع والابتداع. واستكمالا لحلقات مسلسل إصلاح الشأن الديني الذي جعلناه في صدارة اهتماماتنا، وثابتا من ثوابت سياستنا، ورغبة في ترشيد عمل علمائنا الأجلاء، وتنظيم جهودهم وتنسيق أعمالهم الخيرة حتى يكونوا جبهة واحدة موحدة وصفا متراصا في مجاهدة الضلال والجحود ومنازلة التطرف والجمود…”

فعبارة “مجاهدة الضلال والجحود ومنازلة التطرف والجمود” مشعرة بتحقيق القصد في الحفاظ على الدين من جانب العدم.

ومما انبنى على ذلك اضطلاع ولاة أمور المسلمين بالفتوى والمفتين، لأنها من الفقه، فقد نقل عن ابن سيرين رحمه الله قوله: “إن هذا الأمر دين فانظروا عمن تأخذون دينكم”.

وقد نص الخطيب البغدادي على أنه: “ينبغي للإمام أن يتصفح أحوال المفتين، فمن صلح للفتيا أقره، ومن لم يصلح منعه ونهاه أن يعود، وتوعده بالعقوبة إن عاد”، كما ذكر صاحب المقدمة أن “للخليفة تصفح أهل العلم والتدريس ورد الفتيا إلى من هو أهل لها وإعانته على ذلك، ومنع من ليس بأهل لها وزجره لأنها من مصالح المسلمين في أديانهم، فيجب عليه مراعاتها لئلا يتعرض لها من ليس بأهل فيضل الناس”.

وجريا على ذلك السنن فقد أولى أمير المؤمنين حفظه الله مسألة الإفتاء أهمية بالغة علما منه كعادة أسلافه المنعمين بما لها من أثر على الدين وصيانته ممن يجرؤ على التقول في شرع الله بغير علم.

لذا اقتضى نظره السديد إحداث هيئة توكل إليها صلاحية النظر في هذا الأمر: وهو ما نبه عليه الخطاب الذي ألقاه خلال ترؤسه للمجلس العلمي الأعلى بتطوان بتاريخ 27/9/2008، ونصه:

“وفي نفس السياق، أقمنا هيئة مرجعية تختص وحدها بإصدار الفتاوى الشرعية صيانة لها من تطاول الخارجين عن الإطار المؤسسي الشرعي لإمارة المؤمنين الذي نحن مؤتمنون عليه”

ولا شك أن واجب الأمانة الشرعية يقتضي ممن ولاه الله على المسلمين أن يعمل على حفظ الدين من شبه المبطلين، وأن يدرأ عنه تطاول الخارجين عن الإطار الشرعي لإمارة المؤمنين.

ومما ورد في خطابه نصره الله خلال ترؤسه افتتاح الدورة الأولى لأعمال المجلس العلمي الأعلى بالقصر الملكي بفاس بتاريخ 8 يوليوز 2005م.

“وتفعيلا لتوجيهاتنا السامية بشأن تحديد مرجعية الفتوى التي هي منوطة بإمارة المؤمنين، أحدثنا هيئة علمية داخل المجلس العلمي الأعلى لاقتراح الفتاوى على جلالتنا، وفيما يتعلق بالنوازل التي تتطلب الحكم الشرعي المناسب لها، قطعا لدابر الفتنة والبلبلة في الشؤون الدينية، وإننا لننتظر منكم أن تجعلوا من هيئة الفتوى آلية لتفعيل الاجتهاد الديني الذي تميز به المغرب على مر العصور في اعتماده على أصول المذهب المالكي، ولاسيما قاعدة المصالح المرسلة، وقيامه على المزاوجة الخلاقة بين الأنظار الفقهية والخبرة الميدانية، وبذلك نقوم بتحصين الفتوى التي هي أحد مقومات الشأن الديني بجعلها عملا مؤسسيا واجتهادا جماعيا لا مجال فيه لأدعياء المعرفة بالدين ولتطاول السفهاء والمشعوذين ولا للمزاعم الافترائية الفردية”

وبإجالة الفكر فيما ورد بالنص الشريف نجده ناطقا بالعبارات الدالة على حفظ الدين بالمعنى الذي نحن فيه، فالتعليل بقطع دابر الفتنة والبلبلة، والحسم بسد الذريعة أمام أدعياء المعرفة بالدين وتطاول السفهاء المشعوذين، مشعر بعزم أمير المؤمنين على درء الاختلال المتوقع في الدين، وهو ما يعبر عنه عند أهل الصناعة بالحفظ العدمي لهذا الشرع المكين.

وبه يعلم أن الحفظ حفظان كتبهما الرحمن لدين الإسلام، وأقام له من يثبت أركانه ويقوّي دعائمه، وجعل طاعته واجبة على الخلق بالشرع؛ لأنها من الضروريات التي لا تستقيم حياة الناس إلا بها.

مما سبق يتبيّن أن مهام أمير المؤمنين في حفظ الدين وحماية بيضة الإسلام والمسلمين تحققت وفق تصور قائم على تأهيل المؤسسات، ورسم الآليات الخادمة للثوابت والمقدسات، فلاحت بذلك بوادر الحكمة، وظهرت عناصر الوحدة التي عمّ بها الاستقرار والأمن الروحي للمغاربة أجمعين، والحمد لله رب العالمين.